لم تكن الولايات المتحدة حين طرحت مشروع مارشال بعد الحرب العالمية الثانية، وتلقفته إنجلترا وفرنسا، ونهضت به أوروبا نهضتها الكبرى، تنجّم عما سيحققه هذا المشروع في كافة نواحي الحياة لأوروبا بعدما أنهكتها الحروب، بل استخدمت
التخطيط الاستراتيجي طويل المدى والاستشراف للمستقبل والأدوات العلمية والعملية؛ لطرح وإدارة هذا المشروع.
وكذلك لم يكن الغرب والولايات المتحدة والكيان الصهيوني يعبثون حين طوروا عقولهم
الاستراتيجية الجمعية لتكون المنبع الأساسي لدراسة وطرح وتقييم ودعم أي قرار سياسي في كافة المجالات يتم اتخاذه من قبل صانعي ومتخذي القرار، بل تعدى دور عقولهم الاستراتيجية ليتحرك في دراسة أوطاننا العربية والإسلامية كخصوم ومنافسين على الساحة الإقليمية والدولية.
وقامت العديد من المشروعات والدراسات البحثية تصول وتجول لتحليل نقاط الضعف والقوة وتحديد أهم الأزمات، وكيفية الاستفادة من الفرص المواتية لإضعاف أمتنا من جهة، وتشكيل تكتلات نفعية مع الفاعلين الدوليين، ورسم الرؤى للمشروعات الاستعمارية القائمة على نهب ثروات، تقسيم وانهيار أوطاننا حتى لا تتحول إلى كيان جامع، ومن ثمّ منافستها على القرار الدولي.
فما يقوم به العقل الاستراتيجي الغربي من دراسة لخرائط الأزمات (القائمة، والمثارة، والمحتملة) للشعوب العربية والإسلامية يمكنه من استغلالها لتهديد أمنها القومي، وإحداث خلخلة في النسيج واللحمة الوطنية ومكوناتها.
ولو سقنا مثالا لخريطة الأزمات في الدولة المصرية، نجد الملفات الأكثر سخونة هي: الأقباط، وسيناء، والنوبة والحدود الغربية، والصعيد، وأخيرا التطرف المكذوب. وبقليل من التحليل، نجد تفجر الأحداث حول هذه الأزمات تحديدا، خلال العقود الماضية، يستخدم لتخليق حالة إقليمية ودولية تعمل ضد إحداث التنمية، ولتبرير ذرائع الحكم العسكري المستبد، وعدم نضج الشعب المصري للديمقراطية.
نعم، هي الحرب الشرسة على منطقتنا العربية الإسلامية في هذه المرحلة الحرجة؛ لفرض مشاريع الغرب الاستعمارية وحماية كيانهم السرطاني المدلل، وتشكيل المنطقة من جديد واجتثاث هويتنا وتركيع أمتنا.
ومن هنا كانت حتمية تشكيل عقل استراتيجي، جمعي عربي إسلامي، يفكر ويدبر ويدافع عن الأمة، ويحمي مقدراتها، ويخطط لنهضتها من جديد.
وليس هناك شك في أن الدراسة الموضوعية لمستقبل أمتنا العربية والإسلامية لا يمكن أن يبنى إلا على
التفكير العقلاني الرشيد من كل صناع القرار المخلصين، سواء على مستوي القادة أو على مستوى القيادات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتشريعية، والدينية والوطنية الحقيقية.
لكن تشكيل ومأسسة العقل الاستراتيجي الجمعي للأمة يتطلب إرادة حقيقية من أصحاب القرار في دولة عربية إسلامية طموحة ومؤهلة للقيادة، وتتوافر فيها الخبرات والإمكانيات لإحداث الفارق في خضم هذه التحديات التي تعيشها الأمة. فمن هذه الدولة المؤهلة لاحتضانه ومأسسته وتطويره؟
ربما تكون تركيا في الوقت الراهن، بوضعها الفريد والمتميز وعمقها الاستراتيجي، وتاريخها المدافع عن الأمة وإعلاء رايتها، وجغرافيتها الجامعة لجغرافية آسيا وأوروبا، وعلاقاتها المتنوعة إقليميا ودوليا، ووجودها في قلب عمليات التغييرات كبرى تشهدها المنطقة، كذلك ما تحتضنه الآن من خيرة العقول العربية في كافة المجالات والمهاجرة بمبادئها من بطش الدكتاتوريات التابعة للغرب ومخططاته القابعة على أنفاس هذه الأمة.
وقد تكون من أهم أسباب الحرب الشرسة الحالية على تركيا هي أنها لمؤهلة لاحتضان هذا العقل الاستراتيجي الجمعي للأمة ومأسسته، ومن ثم بناء استراتيجية تُحقق الأهداف والغايات الكبرى للأمة، ووقايتها من الأخطار المحدقة بها، وصياغة تصور شامل للتعامل مع التحديات الخارجية، خاصة الإقليمية والدولية منها، بما يخفض تأثيرھا أو يتفادى أضرارها، وينهض بأمتنا من جديد.