اطلعتُ على عدد
من الردود، مباشِرة أو غير مباشِرة، على مقالتي "
لا تنصروا حماس"
المخصّصة لمناقشة موقف بعض منتقدي
حماس في علاقتها بإيران، ممن هم في الأساس، وكما
يُفترض، يشاركون الحركة عداءها الأصلي للعدوّ الصهيوني، ولكنهم يختلفون وإياها في
إدارتها لعلاقاتها، أو في بعض مقارباتها في هذا الصراع، أو يتوهّمون اختلافا غير
حاصل في الحقيقة، إلا من جهة عجز الحركة عن إنفاذ ما يرجونه منها في الواقع،
فيتوهمونه اختلافا أصيلا على مستوى الفكرة والتصور، فيأخذون في مناقشة الحركة
وإلزامها فيما هو في غير محل النزاع، وعلى أيّ حال، يجدر التذكير أن المناقشة
مخصّصة لهؤلاء، لا لكارهيها والمختلفين معها جذريّا من كل وجه.
بيد أنّ هذه
الردود تأخذ طابعا خطابيّا، بافتراضها ما هو غير موجود ثم الأخذ في الاعتراض عليه،
أو في تجرّدها من البناء المنطقي، الذي يتطلب ابتداء تخليص حماس من كل مآخذها
وبراهينها. فأمّا إلزام تلك الردود حماسَ بمواقف مجرّدة عمّا تدعيه وتحتج به، فلا
معنى له، إذ لا حجة في هذا المرسل من القول.
وحين أخذ الأمثلة
لتوضيح المقصود، يتبين حجم الإغراب فيما يذهب إليه بعض منتقدي حماس، كزعمهم أن
حماس تسعى لجرّ الأمّة إلى الخندق الروسي
الإيراني، ثم الأخذ في تفنيد هذا المسعى
غير الموجود في الواقع. والحقّ أن بعض الأفاضل، على ما نحسنه فيهم من الظنّ، ما
يزالون يملكون القدرة على الإدهاش بمثل هذا الإغراب والانشغال في الأوهام،
والانصراف عن الواجب الحقيقي، سواء في نصرة حماس، أو في نقدها.
الحقيقة أن
علاقة حماس بإيران لا تبلغ هذه الدرجة من التحالف كي يُجعل فوق ذلك تحالفا يضمّ
روسيا أيضا. وفي الخطاب السياسي للحركة، فإنّها إطلاقا لا تدعو أحدا لدخول تحالف
من هذا النوع.. هو غير موجود أساسا، وهذه بياناتها وتصريحاتها موجودة، فكيف يتوهم
البعض الاتصالات السياسية بين حماس وروسيا خندقا تدعو حماس الناس إليه؟! لو سلمنا
بهذه الطريقة في التصوير لكانت حماس أيضا في خندق واحد مع السيسي الذي يحاصرها
ويقطع عنها كل معونة، فهي اليوم تملك معه اتصالات سياسية أكثر كثافة من اتصالاتها
بروسيا!
علاقة حماس بإيران لا تبلغ هذه الدرجة من التحالف كي يُجعل فوق ذلك تحالفا يضمّ روسيا أيضا. وفي الخطاب السياسي للحركة، فإنّها إطلاقا لا تدعو أحدا لدخول تحالف من هذا النوع
ثمة إغراب شديد
لا أملك له تفسيرا، إذ لا يمكن عقلنة تصورات من هذا القبيل، لخرافيتها وافتقارها
لأدنى مصداق في الواقع، ولا يليق مثل هذا الإغراب في التصوير، فضلا عن أن يكون
متحصلا بالفعل في ذهن أصحابه.. فالضيق بأداء حماس أو بعلاقاتها بإيران أو بموقفها
منها، لا يسوّغ الشذوذ في تصوير المسائل إلى هذه الدرجة، "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا"، وكونها خرافة فهذا لا يمنع أن تكون
مقولاتها افتراء وبهتانا، والبهتان هنا في انعدام ما تزعمه التهمة، فنحن لا نناقش
صوابية تحالف كهذا، فهو غير موجود أساسا.
وأما موالاة
حماس لإيران، أو مظاهرتها لها، فهو اتهام لا يستند كذلك إلا على مثيل ما سبق من
أوهام، فلا الحركة تقاتل إلى جانب إيران في أيّ من الساحات في الإقليم أو في
العالم، ولا هي أصدرت أي تعبيرات لفظية تساندها في أي من تلك الساحات، بل صدر عن
حماس خلاف ذلك، كما في موقفها من الثورة السورية، أو في الأزمة اليمنية، وهذا لا
يعني أن حماس وُفّقت بالضرورة في كل تعبيراتها التي خالفت فيها إيران، ولكن الفكرة
في الانصراف عن الحقائق المؤكدة، والتعبيرات الصريحة إلى حمل بيانات تعزية، أو
غيرها من المواقف مما لها سياق منفصل أو خاص.. حملها على معاني المظاهرة
والموالاة، وهذا في نفسه إمعان في البهتان، وإن كانت النوايا خلفه صالحة!
مساءلة حماس ينبغي أن تقوم على جملة أسس ومقدّمات، أولها استعراض ما تزعمه من حاجة وضرورة في سياق ظرفها ووقائع قضيتها ومتطلبات مسؤولياتها والواقع المعقد المحيط بها وبفلسطين، ثم المتحصل من علاقتها بإيران، ثم حدود هذه العلاقة
والحاصل أن مساءلة
حماس ينبغي أن تقوم على جملة أسس ومقدّمات، أولها استعراض ما تزعمه من حاجة وضرورة
في سياق ظرفها ووقائع قضيتها ومتطلبات مسؤولياتها والواقع المعقد المحيط بها
وبفلسطين، ثم المتحصل من علاقتها بإيران، ثم حدود هذه العلاقة. أما القفز عن تلك
المقدّمات وكأنها غير موجودة، أو كأن علاقة حماس بإيران محض ترف يمكن الاستغناء
عنه، لمحاسبة حماس على حدود متوهمة في علاقتها بإيران، فهو مما لا يستقيم في أي
حديث بين عاقلين!
والغريب أن بعض
الذين ينتقدون حماس على تحالف غير موجود كهذا، يسوّغون ما سمّوه تحالف الضرورة
الذي يجمع أردوغان بروسيا وإيران، وهذا تطفيف واضح، وكيل بمكيالين، وعدول عن ميزان
العدل والإنصاف، فالضرورة أكثر تحقّقا في حالة ضعيف معدم محاصر كحماس. فما ينبغي
أن تجيزه الضرورة لأردوغان ينبغي أن تجيزه لمن هو أكثر اضطرارا منه كحماس، فإن قيل
إنّ المعوّل على أردوغان أكثر من المعوّل على حماس، وأن الخسارة بسقوطه أفدح من
الخسارة بسقوط حماس، وهو أمر تحتمله وجهات النظر، فإنّنا وإن سلّمنا بذلك، فهو لا
يغير من حقيقة ما نحن فيه، ويفترض والحال هذه أن نقيل عثرة حماس، وأن نفهم ظرفها
على حقيقته كما هو في نفسه، وأن ندفع مثل أردوغان لإغنائها، بدلا من ذمّها على سعيها
لما يقيتها ويحول دون فنائها!
ومع أن هؤلاء
الأفاضل الذين نقصدهم بالمناقشة يحتل العداء للكيان الصهيوني موقعا مركزيّا يليق
به في تفكيرهم، فإنّه لا يحضر بالشكل الصحيح في خطابهم وقراءتهم للأمور. ففي حين
يرون - كما قرأت لبعضهم - أن موقف أردوغان مشرّف من القضية
الفلسطينية، لا نجد
لديهم تلك الاستشكالات على العلاقة التركية الإسرائيلية، ولا على السقف السياسي
الذي تتبناه القيادة التركية الحالية من القضية الفلسطينية، وهو سقف واطئ وقائم
على جدار ما يُسمى بالقرارات الدولية، فإن وجدوا له في الضرورة مساغا، فهي لحماس
أوسع في علاقتها بإيران.
يلزمون حماس بما لا يلزمها، على تناقض وتطفيف في مقارباتهم سبق بيانه؛ يجعل العداء للكيان الصهيوني في درجة دنيا بمقارنته بغيره من الأعداء
وهذا يقودنا
لمغالطات مركزية في أطروحة بعض هؤلاء الإخوة، إذ إنّهم يضعون الفرقاء من أعداء
الأمّة في سلة واحدة، وينكرون التفاوت بينهم، ويعدّونهم كلهم على درجة واحدة من
العداء، فيلزمون حماس بما لا يلزمها، على تناقض وتطفيف في مقارباتهم سبق بيانه؛
يجعل العداء للكيان الصهيوني في درجة دنيا بمقارنته بغيره من الأعداء، على نحو لا
يلاحظ المشكلة في أصل وجوده، ولا في كونه العامل الأهم في استعصاء ثورات البلاد
العربية الأخرى.
ثمّة مغالطة
أخرى، وهي في استنتاج التصورات الفكرية والإستراتيجية لحماس من بعض ممارستها. ففي
حين يزعم بعض هؤلاء الأفاضل أن حماس تتناسى عمقها الاستراتيجي في الشام، فإنهم لا
يستندون في ذلك إلا إلى الممارسات التي تلجئ الضرورة حماس إليها، وهي لا تكاد
تتجاوز حدود المجاملة السياسية التي تبديها حماس لإيران وفيما لا يتضمن دعما لسلوك
إيران في سوريا، متناسين بدورهم التضحية الهائلة التي ألزمت حماس نفسها بها حين
خروجها من سوريا.
يأملون من حماس دورا أمميّا تعجز عنه ممكناتها، فإنّهم في الوقت نفسه يطالبونها بالتخلّي عن الدعم الذي بالكاد يسندها في مواجهة عدوّها على ثغرها الخاص، فكيف يجرّدونها من الحد الأدنى الممكن ويأملون منها ما هو أعلى؟!
وبينما يأملون
من حماس دورا أمميّا تعجز عنه ممكناتها، فإنّهم في الوقت نفسه يطالبونها بالتخلّي
عن الدعم الذي بالكاد يسندها في مواجهة عدوّها على ثغرها الخاص، فكيف يجرّدونها من
الحد الأدنى الممكن ويأملون منها ما هو أعلى؟! والحقّ أنّ ما من فلسطيني واحد، حتى
أشدهم علمنة وفلسطنة، يتناسى عمقه الاستراتيجي في المنطقة العربية كلّها، لإيمانه
أن أقصى ما يمكنه فعله هو الصمود في أرضه بانتظار القادم من ذلك العمق صوب فلسطين.
والحقّ أن
مساءلة حماس واجبة، لكن في غير هذا، إذ إن هذه مساءلة لمترف واسع الخيارات لا لحركة
محاصرة تختنق بالتدريج، فأمّا الواجب ففي أن تُسأل عمّا تفعله لرفع الحصار، وعن
استنهاض الضفة الغربية، وعن تفعيل دور اللاجئين، وعن إسناد قطاع غزّة من مواقع
أخرى، وعن سلامة بنيتها الداخلية، وعن عملها في حشد الأمة خلف قضيتها التي هي
بالضرورة قضية الأمة. ولا يقلّ عن ذلك أهمية، أن نسائل
أنفسنا عمّا نفعله لها في ذلك كلّه، وفي غيره!