زيارة قصيرة لإسرائيل هي السابعة من نوعها لتل أبيب للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال فترة حكمها، تأتي بعد فترة من التوتر في العلاقات بين برلين وتل أبيب، وقد تضمنت أجندتها زيارة نصب "ياد فاشيم" التذكاري لضحايا الهولوكوست، ولقاء مسؤولين سياسيين ووفد رجال أعمال.
"العلاقات بين برلين وتل أبيب.. صداقة باردة".. هكذا عنونت صحيفة "تسايت" الألمانية إحدى مقالاتها تعليقاً على الزيارة، "فأقبح نهاية للصداقة هي النهاية الصامتة، رغم أنه لا تزال هناك لقاءات، يتم خلالها تبادل العبارات فقط، مع توقف الجدال؛ لأن الأمر فيما يبدو لا يستحق العناء بعد الآن"، كما تقول الصحيفة.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن العلاقات بين الطرفين مرت بمراحل من التوتر الذي ازدادت شراسته في نيسان/ أبريل 2017، في عهد وزير الخارجية السابق زيغمار غابرييل، وذلك بعد إلغاء بنيامين نتنياهو لقاء مقررا مع الأخير في القدس، عقب لقائه ممثلي منظمات حقوقية ناقدة للحكومة الإسرائيلية، وهو ما أغضب مسؤولين ألمانا، وانتقدته ميركل بنفسها حينها.
كما تم إلغاء مشاورات رسمية بين الحكومتين الألمانية والإسرائيلية؛ بررت حينها برلين ذلك بضيق الوقت، لكن مراقبين أرجعوا ذلك لتبني إسرائيل سياسات استيطانية جديدة في الضفة الغربية.
التاريخ له دور كبير في طبيعة العلاقة الحساسة بين الجانبين، إذ تقوم ألمانيا منذ عقود، ومن باب "التزامها التاريخي" بما يعرف بـ"التكفير عن ذنبها إزاء المحرقة" التي ارتكبت بحق اليهود في بلاد الألمان، بدعم إسرائيل على مستويات عدة، وهي لا تزال تدفع فاتورة التعويضات لليهود المتضررين من المحرقة بموجب اتفاقية بين البلدين. وهو ما يفسر قيام ميركل، كتقليد دارج للمسؤولين الألمان، بزيارة النصب التذكاري "ياد فاشيم" خلال زيارتها الحالية، وتأكيدها على مسألة معاداة السامية وكراهية الأجانب والعنف، لا سيما ضد اليهود في ألمانيا، رغم ذلك فالعلاقة حالياً قد تضررت وبشدة كما تؤكد وسائل إعلام ألمانية.
فميركل التي ترفع شعار لا جدال على أمن إسرائيل، أصبحت ترى أن سياساتها الحالية تشكل تهديداً للنظام الدولي. هي نبرة ألمانية يرى البعض بأنها حديثة، لا سيما بعد أن تلاشت برلين طويلاً سياسة توجيه انتقادات قوية للسياسات الإسرائيلية لحساسية التاريخ. هذا ما تتفق معه صحيفة "تسايت" التي أكدت أن ميركل كانت أقل قدرة على التعامل مع السياسات الشوفينية لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو منذ سنوات. فالاختراق الفعلي جديد، ويزداد عمقاً، لا سيما بعد الكسر الذي يسود سياسة الشرق الأوسط في الغرب ككل. والنتيجة ضرب الرئيس الأمريكي بقراره نقل السفارة إلى القدس حل الدولتين، كما ألغى اتفاقية النووي مع إيران. هنا انتهكت مصالح أوروبا، وقد احتفل نتنياهو بذلك.
ناقشت ميركل خلال لقائها مع نتنياهو قضية التوسع الاستيطاني في أراضي الضفة الغربية، وقد عبرت خلال مؤتمر صحفي جمعها برئيس الحكومة الإسرائيلية عن قلقها بشأن هذه السياسة التي تجعل حل الدولتين أكثر صعوبة.
لا شك في أن هناك موقفا أوروبيا موحدا برفض سياسة الاستيطان الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وهو ما يفسر الانتقاد الألماني القوي المسنود بموقف كافة دول الاتحاد، وهو الأمر الذي لن يجعل هناك أي عواقب وخيمة، وهنا احتاجت تل أبيب برلين في محاولة لتليين موقفها، وموقف الأوربيين من خلفها، إزاء هذه المسألة، ولكن ميركل أصرت على موقفها وجاهرت بانتقاداتها في هذا خلال المؤتمر الصحفي، وراحت تتكلم أكثر حول حل الدولتين. ومع هذه الخلافات التي أصبحت واضحة، ولم يعد بمكان الإجماع عليها منطبقاً، تعبر إسرائيل عن انزعاجها من الأخلاق الألمانية.
الزيارة هذه تزامنت مع عزم السلطات الإسرائيلية هدم قرية الخان الأحمر الفلسطينية، وهو ما دفع أطفالا فلسطينيين يخرجون
ليستنجدوا بالمرأة الحديدية؛ رافعين صورها وأعلام بلادها إلى جانب الأعلام الفلسطينية، ليطالبوها بالتدخل لوقف هدم بيوتهم بالقرية البدوية المهددة. وهو ما جعل المستشارة تتدخل وسط انتقادات من الخارجية الألمانية لقرار المحكمة الإسرائيلية بإخلاء القرية، معتبرة إياه بأنه يهدد قيام وجود "منطقة فلسطينية مجاورة، وهو ما يخفض من فرص حل الدولتين".
وأمام هذا الضغط الألماني الذي سبق الزيارة بالمطالبات بوقف خطط إخلاء وهدم القرية، اضطرت السلطات الإسرائيلية للإعلان عن تأجيل المخطط كحل وسط، في ما يبدو، لمنع تفاقم الخلاف، ولكن هذا طرح تساؤلات عما إذا ما كان الأمر مؤقتاً لإتمام الزيارة، ومن ثم مباشرة الهدم والإخلاء، أم أن الألمان نجحوا بوضع ثقلهم لوقف هذه العملية؟ البعض ربط قوة الموقف الألماني هنا بمدى قدرته على التأثير بمصير القرية مستقبلاً.
الملف النووي الإيراني كان أحد الموضوعات التي طرحت على طاولة الحوار بين الجانبين، حيث اتفقا على ضرورة منع إيران من امتلاك سلاح نووي، ولكن هنا الاختلاف الجوهري هو بالوسيلة لتحقيق هذا. فبينما ترى ميركل أن الحل هو بالتشبث بالاتفاق النووي مع طهران، فيما يرى نتنياهو العكس؛ بإلغاء الاتفاق وفرض عقوبات اقتصادية، بل وتوجيه ضربة عسكرية على طهران. كما أكدا على أن الوجود الإيراني في سوريا ولبنان يشكل خطراً على أمن إسرائيل.
الاقتصاد والابتكار والتعاون التكنولوجي كان لهما نصيب الأسد ضمن هذه الزيارة التي حرصت المستشارة ميركل على جلب وفد اقتصادي ألماني معها، وتضمن جدولها على لقاء رجال أعمال لتعزيز التعاون على هذه الصعد.
وأمام
هذا التباين الواضح في وجهات النظر بين نتنياهو وميركل على الصعيد السياسي، والذي لم تستطع الزيارة أن تردم هوة الخلاف بين الجانبين، لا سيما وأن نتنياهو الحليف الأكبر لترامب العدو اللدود لسياسات المستشارة الألمانية المنفتحة والمتوازنة، تبدو الزيارة كانت اقتصادية أكثر منها سياسية. فسياسة برلين تركز بالدرجة الأولى على الاقتصاد، وهي تعتبر تل أبيب شريكا مهماً من هذه الناحية، ففضلت أن تأخذ طبيعة هذه الزيارة هذا المنحى بشكل أكبر.