لم تعرف شعبيةُ الرئيس
الفرنسي "إيمانويل ماكرون" درجةً الانحدار مثل ما تعرفه حاليا، حيث
أسفرت نتائج
استطلاع الرأي الأخيرة (IFOP) عن نسبة متدنية من قبول الفرنسيين أداء رئيسهم، لم تتجاوز
31 في المئة، وهي أقل من نتيجة العام الماضي بعشر نقاط (41 في المئة)، والأكثر جاءت أقل من النسبة التي حصل عليها غريمه
"هولاند" خلال نفس مدة ولايته الرئاسية (32 في المئة). لذلك، يشهد المجال السياسي الفرنسي نقاشات حادة وعميقة
حول أسباب تآكل مشروعية "إيمانويل ماكرون"، وحول مستقبل "الماكرونية"
(Macronisme)،
بوصفها رؤية لإعادة تشكيل المجال السياسي، ومشروع لتجديد التعاقد السياسي بين
الدولة والمجتمع الفرنسيين. أما حركة "الجمهورية إلى الأمام" (Republique en marche)، فلا تعدو أن تكون إطارا جامعاً للطاقات، المقتنِعة بجدوى الرؤية والمشروع،
والمستعِدة للدفاع عنهما كي يظلا فعالين ومستمرين.
جدير بالإشارة أن "الماكرونية"
بنت فوزها على تراجع مكانة اليسار بكل ألوانه، وضعف اليمين بكامل تشكيلاته، وقدمت
نفسها، عبر زعيمها "ماكرون"، على أنها بديل حقيقي عن ترهّل الأحزاب
والتنظيمات السياسية التقليدية، وأنها تحمل رؤية جديدة لاستعادة ثقة الفرنسيين في بلدهم وقوة
بلدهم، وأنها مشروعها المجتمعي كفيل بمنح الفرنسيين هذه الإمكانية. وإلا بماذا
يمكن تفسير الزمن القياسي التي استطاعت حركة "الجمهورية إلى الأمام"
خلاله اكتساح الجسم الانتخابي الفرنسي، والظفر بالفوز المحقق في الرئاسيات
والتشريعيات؟ غير أن السياسة كما يقال، حمّالة وجوه، ومفتوحة على الممكن والمحتمل
وغير المتوقع.. إذ بعد مرور سنة ونصف السنة على مناخ الفوز ونشوته، تبددت الرهانات
التي تكونت لدى الناخب الفرنسي، وانكشف بريق "الماكرونية"، لتبدو مشروعا
لفئة معينة ومحدودة للفرنسيين، وليس أفقاً لأغلبيتهم الواسعة. كما ظهر "ماكرون،
هذا القادم من عالم لأبناك والمال"، كرئيس لرجال ونساء الأعمال، وكبار
الأثرياء، وعليّة القوم، أما
فرنسا العميقة فلا نصيب لها من سياسات "الماكرونية"
ومشاريعها.
بدأ تآكل مشروعية الرئيس
"ماكرون" بنوعية السياسات المعتمدة في المجال الاقتصادي والمالي
والاجتماعي، حيث منح فئات ميسورة من المجتمع الفرنسي إعفاءات ضريبية، وأضاف ضرائب
أخرى على فئات محدودة الدخل، كما أدخل إصلاحات على قطاعات ذات حيوية عالية مثل مرفق
النقل السككي، ونظام التعاقد، وأغدق وعودا على قطاعات مهمة، كقطاع الفلاحة
والزراعة، دون الوفاء بوعوده، وأبدى انشغالا كبيرا بقطاع الأمن. بيد أن الممارسة أثبتت
وجود ثغرات كثير وعميقة، وسعى إلى استغلال تراجع بعض القوى على الصعيد الدول (ألمانيا على سبيل المثال) لإعادة تلميع صورة فرنسا، لكن دون أن يذهب بعيدا في هذا
المسار.. ناهيك عن مشكلة البطالة في صفوف الشباب، وتحديدا الأحياء المهمَّشة في
المدن والحواضر الكبرى، والحد من تدفق موجات الهجرة الدولية.. إنها عناوين لقضايا
وملفات ساهم الأداء المحدود للرئيس "ماكرون" في تآكل مشروعيته وإضعاف
درجة قبول الناس لأدائه.
لذلك، ذهب بعض المحللين إلى
تفسير حركة الاستقالات التي أقدم عليها بعض وزراء "إيمانويل ماكرون" (من قبيل استقالة وزيرة الرياضة "LauraFlessel"، ووزير
الانتقال الأيكولوجي "Nicolas Hulot"، واستقالة وزير الداخلية "Gerard Collom"، وهو أحد أعمدة الرئيس
"ماكرون"، والمؤسسين البارزين لحركة "الجمهوربة إلى الأمام") على أنها ضربة قاسية للرئيس "ماكرون"
ولمشروعه السياسي، وأنها وقائع دالّة بالنسبة لأداء الرئيس الفرنسي.
ما زال أمام الرئيس "ماكرون"
أكثر من ست سنوات لانتهاء ولايته، فهل يتمكن من استرجاع شعبيته، واسترداد ثقة
الناخبين في حركته؟ أم أن منحى تدني سمعته سيتزايد في الانحدار، إلى الحد الذي يُفضي
إلى ما أقضى إليه نظيره السابق "فرانسوا هولاند"، الذي خرج منكسرا،
وانكسر اليسار جراء فشله؟
سيكون صعباً توقع تطور أداء
الرئيس الفرنسي بقدر كبير من الوثوقية، لكن من الممكن احتمال حصول مشاهد للتطور
خلال السنوات المقبلة المتبقية من ولايته؟ فقد تزداد
شعبية "ماكرون"
انحداراً وتدنيا، إن هو استمر في نهج سياساته الموسومة بالانحياز لفئات اجتماعية
معينة من المجتمع الفرنسي.. ونظن أنه مشهد قابل للتحقق، بسبب انسجامه مع خلفية
"ماكرون" وقناعاته الشخصية، وربما بسبب ارتباطه شخصيا بعالم المال
والأعمال، على الرغم من طموحه إلى تقديم حركته كـ"خط ثالث"، على شاكلة
ما دعا إليه "طوني بلير" في بريطانيا. كما يمكن أن يحصل تغيير في
مقارباته للقضايا الحيوية لفرنسا، بما يسمح له بصياغة سياسات مفتوحة على أوسع فئات
المجتمع الفرنسي، بغية تجديد قاعدته الشعبية، وتوسيع بناء التأييد ليشمل قطاعات
أكثر من المجتمع الفرنسي. وقد يقدم في مستوى ثالث على تغيير جذري في رؤيته، وهذا
غير وارد في الزمن المنظور؛ لأنه مرتهن ببرنامجه الانتخابي أولا، وبما شرع في
إنجازه ثانيا، وستكون قفزة في الهواء إن هو أراد اعتماد إيقاع مرتفع في مشهد
التغيير. فماكرون، الذي يقدم نفسه من أذكى رؤساء فرنسا، لا يقدر ولن يقدر على مثل
هذه القفزة.