لم يكن جمال خاشقجي معارضاً بل كان داعية إصلاح، وهذه ميزة أولى تسجل في كتابه، فالمعارضة من الاعتراض، وهي توحي بدلالة سلبية تتمثل في تقصد إظهار الأخطاء وإدانتها لاكتساب شرعية الوجود، لكن منهج المصلح في التعامل مع النظام هو تحسين الحسن وتقبيح القبيح. فقد كان صوتاً من داخل المنظومة لا من خارجها، مثله في ذلك مثل مؤمن آل فرعون الذي خلد القرآن ذكره. لقد كان انتماء مؤمن آل فرعون القومي والنفسي إلى قوم فرعون لا إلى قوم موسى، لذلك كان يحدثهم بضمير المتكلم انطلاقاً من رغبته في إبقاء ملكهم وشفقةً عليهم من عاقبة مكرهم السيئ: "يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا".. "يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ".
كذلك كان جمال خاشقجي مترفقاً ليناً في دعوته الإصلاحية، كانت دعوته مثل الماء في انسيابها لا مثل النار في فورانها، لذلك فإن قتله يكشف مدى وحشية الفاعل ويحرمه من أي قدرة على تبرير الجريمة. لم يكن المغدور يمثل كياناً أيديولوجياً يزاحم النظام في وجوده ويسعى ليحل محله، إذاً لاحتملت الجريمة شبهة التأويل بأنها في سياق صراع السلطة وحرب البقاء، لكنه لم يكن يدعو إلى أكثر من حرية الكلمة وحرية الرأي واعتماد نهج الحوار؛ بدل التخويف والعدوان. هذا التجريد لموطن الخلاف من كل ما قد يستند النظام إليه من شبهات ومسوغات والتسلح بالكلمة وحدها وبالموقف وحده؛ يمنح داعية الإصلاح شرعيةً أخلاقيةً متينةً لا يملك الطاغية انتزاعها أو تشويهها، ويجرّم الطاغية؛ لأن أي استهداف حينها لدعاة الإصلاح يحمل دليل إدانته في نفسه، فلا يضيق من الدعوة إلى الإصلاح إلا فاسد مفسد ولا يضيق من الكلمة الحرة إلا طاغ باغ مستبد ولا يقتل الآمرين بالقسط من الناس إلا الذين يقيمون سلطانهم على أنقاض الظلم والاستعلاء.
لا عجب أن يعد الدين أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، فالكلمة المجردة هي القادرة على نزع شرعية الظلم وتذكير الناس ببديهيات المساواة وحقوقهم المسلوبة ،وحرمان الظالمين من مساعيهم إلى تطبيع واقع الظلم وكأن الله أورثهم ميزات فوق البشر، وإزعاجهم بحقيقة الميزان الذي نهاهم الله عن الطغيان فيه. إن الكلمة تلامس أعمق ما في النفوس؛ لأن الظالم مهما عظمت سلطته لا يكتمل هناؤه إلا بشيخ أو كاهن أو عالم يطمئنه باستقامة طريقته، ويسكن ضميره من أوجاع غمط حقوق الناس والبغي عليهم. أما مواجهة الطاغية بالسلاح أو بخطاب الكراهية، فإنه يحيد المعركة الأخلاقية ويستفز الآليات الدفاعية في كيان السلطة، ويظهر السلطة في مظهر الأبطال الساعين إلى المحافظة على نظام الدولة ووحدتها، وأنها تواجه عدواً مكافئاً، فتتحول جرائم السلطة إلى أعمال بطولة وانتصار، وتستغل السلطة أجواء الاستقطاب الحادة في ارتكاب مزيد من الجرائم، وفي تكريس تسلطها وإيجاد المبررات لقتل الحريات وإخراس الأصوات.
أظهرت جريمة قتل شهيد الكلمة جمال خاشقجي أن العدو الحقيقي لمنظومة
الاستبداد والفساد هو الكلمة وليس البندقية، وأن التناقض الجذري لهذه الأنظمة هو مع الاعتدال وليس مع التطرف. لقد تمثلت خطورة خاشقجي في أن أفكاره كانت تملك جاذبيةً قادرةً على حشد مناصري العدل والحرية في العالم إلى صفها، وعلى تفتيت تماسك الجبهات الداعمة لهذا النظام، وما كان لأفكار خاشقجي أن تتحلى بهذه القدرة لولا ما تضمنته من معان إنسانية ومن أطروحات معتدلة ومن تناغم مع الفطرة الإنسانية المجبولة على حب العدل والقسط. كانت هذه الأفكار قادرةً على إضاءة شعاع من الأمل وسط ظلمات اليأس التي تحيط بنا، وعلى تلطيف الأجواء المشحونة بالكراهية، وعلى كسر حدة الاستقطاب الطائفي والسياسي، لذلك كان من الطبيعي لنظام يستمد شرعيته من تفشي الجهل، وإشاعة الخوف وتأجيج الفتن الطائفية، وإعلاء تهديد الإرهاب؛ أن يشعر بالخطر من هذه الأفكار التي ستحرمه من بيئته النموذجية للاستمرار.
أظهرت هذه الجريمة الارتباط الوثيق بين أنظمة الاستبداد وبين الإرهاب الذي تمثل في نسخته الأخيرة بداعش وممارساته الوحشية، هذا التشابه تمثل أولاً في التفاصيل الفنية للجريمة الوحشية التي تذكر بفظائع داعش في السنوات الماضية، وتمثل ثانياً في أن كلاً من تنظيم داعش والنظام السعودي يستند في تبرير جرائمهم إلى تكييفات فقهية منحرفة. فداعش كان يستحضر مع كل جريمة جديدة يقترفها دليلاً من الموروث الفقهي، وهو ذات الموروث الذي يرعاه النظام السعودي وينشره في الآفاق، لما يحتويه من مضامين تكرس هيمنته وتعطل حس الثورة في نفوس الناس، هذا الموروث يستند إلى مفاهيم من قبيل: "سلطان غشوم خير من فتنة لا تدوم"، و"طاعة السلطان وإن جلد ظهرك وأخذ مالك"، وتحريم الخروج على ولي الأمر.
في هذه البيئة الفقهية التي فرخت ثنائي "نظام آل سعود- تنظيم داعش"، ليس مستغرباً أن يخرج شيخ مؤصلاً جريمة إعدام خاشقجي من التاريخ الإسلامي بحاثة قتل مالك بن نويرة على يد خالد بن الوليد ومخالفة خالد في ذلك لتعاليم أبي بكر الصديق، وبالمثل فقد قتل الوفد المفاوض جمال خاشقجي مخالفين في ذلك هدي ولي الأمر ابن سلمان!!
أما ثالثاً، فقد منح وجود الإرهاب أنظمة الاستبداد شرعيةً سياسيةً، إذ كانت هذه الأنظمة عاريةً في مواجهة ثورات شعوبها السلمية ومطالبات المصلحين بالحرية والعدل. لكن حين ظهر الإرهاب المسلح، فجأةً تغيرت الصورة من ثورة شعبية ترفع مطالب أخلاقيةً عادلةً؛ إلى اقتتال داخلي جعل أهلها شيعاً، واستبيح فيه التدخل الخارجي، ورفع عن الأنظمة حرج دفع تكلفة الإصلاح السياسي، ولم تعد هذه الأنظمة عصابات مجرمةً تقتل المتظاهرين السلميين، بل صارت أنظمةً وطنيةً وقوميةً تحمي البلاد من الإرهاب.
لقد رأينا هذا التكامل العضوي بين الاستبداد والإرهاب في سوريا، إذ إن تمدد داعش فيها أدى بالضرورة إلى انحسار الاحتجاج السلمي، واستعاد النظام السوري زمام المبادرة وعزز شرعيته. ونحن نرى ذات العلاقة بين النظام السعودي والإرهاب، إذ إن وجود هذا الإرهاب يمنحه شرعية البقاء ويعفيه من استحقاقات الإصلاح السياسي.
لقد دفعت شعوبنا العربية أثماناً باهظةً من الدماء والتفكك في السنوات الخالية؛ في حروب عبثية يظن كل فريق من المتحاربين فيها أنه يقاتل في سبيل الحق، لكن الرابح الوحيد فيها هم تجار الأسلحة وأصحاب المشاريع المضادة لتطلعات الشعوب. وفي ضوء انسداد مسار عسكرة الثورات الذي أدى إلى الاقتتال المسلح وإلى تفتيت البلاد وخراب العمران واتعاظاً باستهداف صوت الإصلاح المعتدل جمال خاشقجي، فقد آن الأوان لأن نختصر التكلفة ونكتشف الطريق التي تمثل تهديداً حقيقياً لبنى الاستبداد والفساد.. إنها طريق اللين والسلم وليس الشدة والعنف.
يقول الحكيم الصيني لاو تسو:
"لا شيء على الأرض أوهن من الماء
ثم إنك لا تجد شيئا أنفذ
في الحجر الصلد، من الماء".