وفي سجن "أوردي طرة" عام 1966م، كما يحكي الأديب المبدع الراحل "نجيب الكيلاني" في الجزء الثاني من مذكراته كان - رحمه الله - كلما نُوديَ اسمه في ميكرفون
السجن صاح بأعلى صوته:
- يا نهار أسود!
إذ إن النداء باسمه في الميكرفون كان يعني لديه أنهم ذاهبون به إلى السجن الحربي (كما في المرة السابقة التي سجن فيها عام 1955م)، وكان عليه قبل أن يصيح متطيرا متشائما؛ أن يجهز "البرش" أو الحصيرة القش التي كان ينام عليها والبطانية وقليلا ملابسه ويجلس فوقهما، ولذلك كان بعض أصدقاء وزملاء، بل "إخوة" الزنزانة (بوصف "الكيلاني") كلما جاء اسمه في الميكرفون صرخوا معه بأعلى أصواتهم:
- يا نهار أسود.
كان -رحمه الله- لا يعرف سببا لإعادة اعتقاله بعد أن صار ربّا لأسرة فيها ثلاثة أطفال عام 1966م، وكذلك لم يتوقع أن تسوء الأمور أكثر ويتمادى به فقر الحال والتعذيب إلى سجون أكثر إظلاما وإيغالا في ظلمة الليل الشديدة، بخاصة بعد رفضه عرضا من صديق للسفر للعمل في الكويت؛ ظنا أن الأمور هدأت واستتبت في مصر.
ذات مساء، وبالتحديد في ذكرى "حادثة المنشية" وما اصطلح على تعريفه بمحاولة اغتيال الرئيس الأسبق "
جمال عبد الناصر".. في ذلك المساء طرق باب المعتقل سجان صاح:
- نريد ستة منكم!
ويُعقب "الكيلاني" بأنهم ظنوا أن الأمر لا يعدو ولا يتجاوز أن يكون إحضارا للخبز من الخارج أو ما شابه، لكن
المعتقلين ما لبثوا أن فوجئوا بصراخ عالٍ يصم الآذان لإخوانهم الستة، ولفهم الصمت الشديد بردائه البالغ السواد والقسوة، حتى عاد زملاؤهم الستة والجراح والدماء قد أثخنتهم وأدمتهم، وحينما تحلق "الكيلاني" وبقية المساجين حول المصابين صاح السجان بهم:
- حذار، فالتشريفة موجودة، وهي من خارج السجن.. لمن سينطق منكم حفلة مثل هذه بمناسبة نجاة الرئيس من محاولة الاغتيال في المنشية عام 1956 (أي بعد اثنتي عشرة سنة كاملة)!
وظل الحال من الصمت المطبق في تلك الليلة حيال نزيف دماء المصابين، حتى قال لهم السجان ضاحكا:
- مشيوا خلاص، يمكنكم "التنفس" الآن!
أما أحد مساجين الإخوان، فقد "رنت ودوّت" واصطدمتْ بذهنه - بعد حين - فكرة عجيبة وبالغة الغرابة للتخلص من دوام التعذيب ليل نهار، بل الخروج من السجن غير المعروف النهاية.. أما ماهية الفكرة فكانت ببساطة "التنصر" والتحول من الإسلام إلى الديانة المسيحية، وعبثا حاول المساجين ثنيه عن رغبته، وأن "الثبات" أكثر فائدة وأرجى لرضى الله الآن.
وعلا صوت المسجون مطالبا بمقابلة الضابط الحالي في السجن لأن لديه كلاما خطيرا. وفعلا استدعاه الضابط، على النقيض تماما مما كان يفعل وزملاؤه مع الحالات المرضية، حتى الخاصة (مثل الزائدة الدودية)، إذ لم تكن الجراحة تجري إلا مع انفجار الزائدة ونجاة المريض منها بأعجوبة!
سأل الضابط السجين:
- ماذا تريد؟
- التحول إلى المسيحية!
- إنني مسيحي.. ومن قال لك إننا نقبلك في ديننا؟ إنك لست مسجونا لديانتك الإسلامية، فهناك مَنْ هم أشد تدينا منك وهم مسلمون ومسيحيون ويهود في الخارج.. لكنهم لم يُسيسوا دينهم، لذلك بقوا خارج السجن ودخلت أنت (!).
لم يقل الضابط المختص للمسجون أن الأمر يخص منظومة الوعي من جميع أطرافها، وأنه (المسجون) تعمق في فهم تلك المنظومة ومفهوم الحرية الواسع، لذلك تم الزج به في السجن، وتُرك غيره.
وعند عودة السجين الذي كان يريد التنصر إلى السجن، استقبل المساجين ذهابه إلى الوضوء والبدء في صلاة المغرب بالفرحة الشديدة، ثم عناقه، وحمْد الله على عودة "العقل والإيمان" إليه.
إن المحنة الشديدة كانت تذهب بعقول البعض، حتى ليحاول التبرؤ من دينه!
أما المرة التي صاح فيها الكيلاني "يا نهار أسود"، والتي ذكرناها في البداية فكان سببها عكس ما توقع رحمه الله.. فلم يكن سينقل للسجن الحربي، ولم ينقل إليه على مدار قرابة سنتين مريرتين (من عام 1966 حتى 1968م)، ولكن اسمه نُودي عليه لأن شيكا جاء لزوجته من الكويت نظير حقوقه عن تحويل رواية له لمسلسل، ومع فرحته الشديدة بالنجاة كان الضابط المختص يقول له:
- وقع جيدا باسمك المحفوظ في البنك لكيلا تُعاد الأوراق!
أما كيف كانت تنفق زوجة "الكيلاني" في الخارج، فقالت له إن أباها العالم الأزهري "محمود شاهين" استضافها لفترة، وأن والد الكيلاني وأمه جاءا للإقامة مع الأسرة في مدينة "أبو زعبل"، حيث كانت الأسرة تقيم، ثم اضطرت الزوجة "كريمة" لبيع ذهبها لتنفق على الأسرة.. ثم إنها كانت تفاجأ بالذي يطرق الباب عليها صائحا، وهو يحمل على حمار شوالا من الأرز بالإضافة لصابون وزيت ومتطلبات أخرى غذائية:
- هذه "الأشياء" دفع ثمنها "الدكتور" قبل اعتقاله ولم يأخذها مني!
وتكرر الموقف مع خوف وجري "المُتبرع"، بعد أن يضع المواد الغذائية على الأرض، وقبل أن يتم الانتباه إليه من جانب أحد المخبرين ويتعرض للسجن بتهمة مساعدة أهالي المساجين من الإخوان.. وكأن المطلوب موتهم جوعا.
لكن العجيب أكثر مما سبق؛ هو أن زوجة "الكيلاني" (كريمة شاهين) استطاعت، عبر أختها "نفيسة" التي كانت تعمل بالإذاعة المصرية، الوصول إلى "عبد الناصر" مع دوام زيارة بيته وطلب موعد معه، حتى تم لهما ذلك في قصر القبة عن طريق سكرتير الرئيس الراحل، أو "سامي شرف" كما يُغلب "الكيلاني".. أما ما دار بين زوجة الراحل والرئيس آنذاك، فهو أن الأخيرة تقدمت بشكوى تثبت فيها أن زوجها حسن السير والسلوك ولا يتسبب في مشكلات لأحد، وأن "هذا يُحسب له لا عليه". كما أكدت أن زوجها مؤلف قصص تدرس للمرحلة الثانوية في البلاد، "وهو ما يحسب له لا عليه!".
وراح الراحل "عبد الناصر" يكرر الجملة الأخيرة وراءها وهو يبتسم، ووعدها بالتصرف والنظر في الشكوى، ثم نسي الأمر برمته أو كله، واستمر سجن "الكيلاني" لأشهر ليست بالقليلة بعدها.
ولما حان حين الإفراج عن الرجل، بعدما داخ أبوه أيضا في توسيط الكبراء له، لقي بعد حين زوجته "كريمة" وأختها "نفيسة"، ففوجئ بنفسه لا يعرف أيتهما زوجته؛ لولا أن جرت الأخيرة إليه؛ دامعة العينين "بلا تحرج"، كما يقول. أما أصغر أبنائه فكان يقول أمام المهنئين بعودة "الكيلاني" لمرضاه وأسرته:
- أين أبي الجديد هذا الذي يقولون عنه؟
وكان الطفل في عمر أقل بقليل من ثلاث سنوات!
ألا ما أشبه الليلة بالبارحة.. وإن مرت بينهما أربعون سنة.. اللهم فرج عن مصر، وعن الوطن العربي والإسلامي، وجميع شرفاء العالم.