تفكرتُ كثيرا عبر عدد من سني حياتي حول معنى
الغربة.. في البداية مع تباشير المساء وبداياته المقبلة مع هالة من نسمات مقلقة لحر الصيف، أو مضيفة لسعة رائقة أو غير رائقة لبرد الشتاء.. كثيرا ما سألت نفسي: ما معنى شعوري المتألق بالاشتياق لروح مضت عن حياتي وودعتني، مع معرفتي جيدا أنها لن تعود مهما تالمتُ وافتقدت؟
غادرني قبل أن أتم عامي الرابع عشر، وتركني بلا استئذان أو مقدمات إلا قليل كلمات؛ لو أعرف أنها ستحقق شيئا لقلقتُ عليه أكثر. وحتى في أشهر مرضه المزمن التي سبقت رحيله بمسافة قصيرة، كان أبي رحمه الله إذا سألتُه في الطريق عن أمر غامض يستطيع فعله ولا أصدق ذلك؛ كان يقول لي بقوة:
- لما أصحو من مرضي أفعله أمامك..!
كنتُ أرد بنفس الطفل المُتعجلة الظمأى للاستزادة من قدرات وخبرات أبيها:
- وهل أنتظر حتى تشفى.. لتفعل؟!
كان أبي يحزن مني حزنا شديدا، حتى ليداري عينيه عني ولا يجيب على أسئلتي إلا بعد اعتذار يليق به وبي.
وكان أبي وكان!
كان يداري عينيه، وأخاله يبكي عندما يضربني لأمر يعتقد أنه تجاوز شديد مني في حقه أو حق الآخرين، وكثيرا ما أسر إليّ القول بأنه يشعر أنه سيرحل عما قريب، ولذا فهو شديد الإشفاق عليّ لشعوره بأني الأقرب من أبنائه، بل الحياة إلى طبعه ونفسه.
لم يكن الصغير غير قصير القامة الذي يسير إلى جواره ببنطاله غير المكتمل؛ يعرف ما معنى الغياب المطلق عن الوجود والحياة، ومن يومها صار يرتعب من كل غياب، وإن اختلى بأخته الصغرى في المنزل دون أحد معهما راح يفكر لماذا ستسقط هذه اللحظة من تذكاراته بعد حين.. إن حدثوه عن غلق باب القبر بكى بشدة، إذ يتخيل أن يذهب أبوه فلا يعود، بل إنه كان يغلق الباب عليه فيتمنى أن يحفظ الله عليه أباه فلا يفارقه، ويروح يصلي معاهدا الله على الطاعة.. بما يحيّر معه أباه.. عالم الدين الأزهري المعمم:
- ربنا لا يشترط عليه أحد يا بُني.. ونحن سنلتقي في غير هذا الوجود، لا أشك.. فلا تحزن عليّ ولا ترهق نفسك بالحزن والبكاء في حياتي.
هل عانى أبي مثل معاناتي بعده، رغم وفاة أبيه في وقت متأخر من عمره؟
أم أنه كان موصولا بالله بما يكفي لأن يعرف أن عمره لن يمتد ليراني شابا أو مجرد يافع؟
الأمر له علاقة بمحبة القلوب والأرواح ومحنتهما، صغارا وكبارا.
وبعد المغيب، شعرتُ بأن أبي مدفون في صدري، أسير به فلا يفارقني؛ وما ناداني صغاري بأبي إلا وخلتُ وتأكدتُ أنهم يقصدونه، وما هممتُ بفعل أمر مشين أو مستقبح، أو حتى غير جيد، إلا وتذكرتُ وجه أبي وهو يأمرني قبيل الغروب بأن أستقيم لكي نعدل الشال القماشي الأبيض، ونديره بقوة حول الطربوش الأحمر ذي الزر الأزرق المُكون لعمامة أبي، والتي تحمل ألوان علم فرنسا منذ كان العلماء في مقدمة الشعب لطرد الحملة الفرنسية، واحتفلوا بهذا النصر فوق رؤسهم للأبد!
ومؤخرا زادت جرعة الحنين إلى أبي..
وصارحتني نفسي بأن محبة أبي الغائب عني منذ أكثر من ثلثي قرن ما هي إلا اشتياق لرؤيته، لكن في ظل عرش ربي، ومع ازدياد قسوة الغربة الحقيقية والشعورية مؤخرا، حتى ما عدتُ أعرف بلدا يحتوي شتاتي قريبا، مرددا دعاء سيدنا زكريا لربه ألا يذره فردا وهو أرحم الراحمين.. في قلب طوفان السفر وضيق البلاد ومعاناة مئات الآلاف من الشرفاء؛ تذكرتُ مقولة مولانا "جلال الدين الرومي": كل استمتاع بفن في الدنيا جزء من الحنين للمتعة الأقرب إليها في الجنة!
وكل حنين إلى أبي حنين لما هو أقرب من لقاء ربي ورضاه عني والأنس لذلك!
قال لي أبي:
- سنلتقي، لكن عاهدني ألا تفعل كبيرة تُلقي بك في مكان بعيد عني.. وأسأل الله ألا يكون ذلك.
منذ آلاف الأيام والليالي وأنا أسير إلى أبي.. ولعل الضيق الشعوري والغربة المتأزمة منذ سنوات؛ رسول بأن اللقيا صار قريبا!