يمثل محور الهوية والانتماء أحد أهم المحاور التي أثيرت في تونس خلال السنوات القليلة التي أعقبت الثورة. لكن المسألة على تشعبها وخطورتها وعمقها وحساسية المستويات التي تحركها فإنها لم تكن مجال نقاش معرفي أو تاريخي رصين من قبل مختصين أو أكاديميين مستقلين بل إنها برزت أساسا من خلال المنصات الإعلامية الخاصة بشكل أساسي.
فرغم الصراع الكبير الذي عرفته قبة البرلمان خلال صياغة الدستور حول البنود والمواد المتعلقة بمسألة الهوية والذي انتهى بالتوافق على رسم المبادئ الأساسية العامة المحددة لطبيعة الدولة والمجتمع، فإن الجدل لم يتوقف بعدها حول ما تطرحه مسألة الهوية من أسئلة حارقة.
سلاح سياسي
الملاحظة الأولى لا تتعلق بمسألة الهوية نفسها بما هي موضوع يحتاج الطرح والمناقشة والتمعن بل إن خطورة الطرح تتمثل في توقيته المريب من جهة، أي حساسية المرحلة الانتقالية والأطراف التي تطرحه من جهة ثانية. لقد تحولت مسألة الهوية إلى سلاح سياسي وحزبي بالدرجة الأولى وشكلت أداة من أدوات النفخ الإعلامي في الأزمة الاجتماعية التي تعيشها البلاد.
وهو ما دفع بالكثيرين إلى الإقرار بأن مسألة معقدة وحساسة مثل مسألة الهوية لا يجب أن تطرح في وضع انتقالي شديد الخطورة على استقرار البلاد وعلى أمنها الاجتماعي وهي ثانيا مسألة لا تثار من طرف قوى حزبية أو ذات مرجعية حزبية تستعملها في حسابات سياسية لا تخدم القضية المطروحة نفسها.
الحريات والميراث
أسالت مسألة المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة الكثير من الحبر تونسيا وعربيا لما لها من حساسية كبيرة تستمدها من علاقتها الوثيقة بأحكام القرآن الثابتة واندراجها في نسق كامل من أنساق منظومة التشريعات الإسلامية في دولة دينها الإسلام بنص الدستور. وهي كذلك قضية مهمة وخطيرة لأن لها استتباعات أسرية عميقة تمس كامل البناء الاجتماعي في الدولة.
إقرأ أيضا: تونس.. السبسي يُحرج النهضة ويصادق على المساواة في الإرث
أما حاملو مشروع المساواة في الميراث فإنهم يدرجون هذا المطلب في إطار أكبر وهو توسيع مكسب الحرية الذي تنادي به المرأة التونسية فمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة لا يجب في نظرهم أن يستثني مسألة الميراث بل لا بد أن يكون جزءا منه. فالهدف المعلن إذن هو منع تهميش المرأة التونسية وهضم حقوقها المادية أو المعنوية وإلغاء التفاوت بينها وبين الرجل.
أسالت مسألة المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة الكثير من الحبر تونسيا وعربيا لما لها من حساسية كبيرة تستمدها من علاقتها الوثيقة بأحكام القرآن الثابتة
لكن هذا المطلب يخفي في الحقيقة خلفية أيديولوجية تتجلى في محاولة استفزاز الخصم السياسي المتمثل في الكتل المحافظة بما فيها التيارات الإسلامية ذات المرجعية الملتزمة. أي أن النقاش قد تحول من نقاش فكري مجتمعي بما أن المجتمع هو المعني الأول بهذه القضية إلى صراع سياسي بين أطراف لا تمثل في الحقيقة القضية المطروحة. فمطلب المساواة ومطلب الحرية بكل متضمناتها هو مطلب اجتماعي أساسا وهو المطلب الذي من أجله اندلعت الثورة التونسية وهي التي قامت في جوهرها رفضا للتهميش والظلم والاحتقار الاجتماعي.
من جهة أخرى يشكل مطلب المساواة في الميراث بقطع النظر عن طبيعته القانونية أو الفقهية عامة مأزقا حقيقيا للطرف الذي يرفعه وينادي به. فالجمعيات والأطراف السياسية التي تقف وراءه تنتمي أساسا إلى النخب القريبة من النظام الحاكم سابقا وقد نشأت في إطار منظومته الفكرية وتصوره للنمط المجتمعي التونسي.
الاستبداد والحرب على الهوية
لم يكن نظام بن علي حاميا للحريات ولا مدافعا عنها بل كان من أشد المعادين لها وللمدافعين عنها تحت شعارات مزيفة مثل الدفاع عن المرأة أو محاربة التطرف أو إدعاء الحداثة والانفتاح. لقد كان مشروع بن علي يهدف أساسا إلى السيطرة على المجتمع ومنع كل تهديد يمكن أن يقوض سلطته ونفوذه وهو المشروع الذي تضمن من بين ما تضمن مبدأ تجفيف المنابع التي كان ظاهرها ضرب الإسلاميين بما هم خصومه السياسيون لكنها في العمق كانت حربا على القيم وعلى أسس المجتمع التونسي وهويته العربية المسلمة.
ومن ناحية أخرى فإن نظام بن علي ومن قبله بورقيبة قد وضعا أسس التهميش الاجتماعي والتفاوت الجهوي بين حواضر مترفة ومناطق داخلية تكاد تكون معزولة بسبب ما تعانيه إلى اليوم من الفقر والبطالة وتفشي كل أنواع الأمراض الاجتماعية التي هي الحاضنة الأساسية للتطرف والجريمة والانحراف. فالمرأة الريفية اليوم في تونس تمثل أحد أهم ضحايا سياسة التهميش والإقصاء الاجتماعي لكنها لا تجد في صراعات النخب السياسية أي ممثل لمطالبها وحقها في المساواة وفي العدالة الاجتماعية. هكذا يغدو مطلب المساواة والحرية ترفا نخبويا تونسيا لا يحترم الجزء الأكبر من مكونات المجتمع ومعاناته هذا إلى جانب ما تتمتع به المرأة التونسية من حقوق هي الأعلى عربيا مقارنة ببقية الدول الأخرى.
لقد تحولت مسألة الهوية إلى سلاح سياسي وحزبي بالدرجة الأولى وشكلت أداة من أدوات النفخ الإعلامي في الأزمة الإجتماعية التي تعيشها البلاد.
ليست المشكلة الأساسية في المطلب بحد ذاته رغم اعتراض السواد الأكبر من المجتمع التونسي على متضمناته بل تتمثل أساسا في طابعه الانتقائي من جهة وفي توظيفه السياسي من جهة أخرى وفي تعارضه مع المقدسات الأساسية لمجتمع محافظ مثل المجتمع التونسي. إن مشكلة الميراث والحريات تشكل شاهدا على أزمة النخب التونسية وانفصالها الكبير عن الواقع اليومي لمجتمعها، ففي الوقت الذي تبدو فيه الاستحقاقات الإجتماعية والإقتصادية ملحة على الجميع في إطار مسار انتقالي عسير لا تزال هذه النخب تمعن في إثارة الملفات الخلافية وفي حرف المسار عن وجهته الصحيحة.
لم تطرح مسألة الهوية في مرحلة الاستبداد الذي استهدف كل مقومات الدولة والمجتمع واستنزف كل الطاقات المنتجة وحوّل البلاد إلى بقعة طاردة لكل الكفاءات والطاقات وإلى مصدر لنهب الثروات الوطنية. لكنها تطرح اليوم وبإلحاح شديد بشكل يجعل من النخب الوطنية التونسية جزءا أساسيا من الأزمة المستفحلة وسببا أساسيا من أسباب تعثر المسار الانتقالي برمته.
إقرأ أيضا: ماذا يتبقى للدولة من إسلاميتها بعد تجاوز مرجعيتها الدينية؟