هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت مجلة "بوليتيكو" مقالا لكل من أستاذ علم النفس في جامعة أوراغون، بول سولفيك، والباحث أندرو كويست، يقولان فيه إن "حالة وفاة واحدة مأساة ومليون وفاة هي رقم إحصائي".
ويعلق الكاتبان في مقالهما، الذي ترجمته "عربي21"، قائلين إن "هذه المقولة، التي عادة ما تنسب إلى جوزيف ستالين، تعطينا فكرة عما يسميه علماء النفس (حسابات التعاطف): فعندما نحاول تقييم أهمية الأزمات الإنسانية نجد أنه كل ما كان عدد الضحايا أكبر قل اهتمامنا".
ويشير الباحثان إلى أن "هذا التحيز في حساباتنا الإنسانية تم توثيقه في العديد من التجارب النفسية المرتبطة بالتصرفات المتعلقة بإنقاذ الحياة، حيث تظهر أن المشاعر الحدسية الإنسانية -التي نثق بها لاتخاذ الأشكال المختلفة من القرارات- لا تفهم الأرقام، وعلى المستوى العاطفي، نهتم جدا بإنقاذ حياة واحدة، لكن كلما زاد عدد الأرواح المهددة فإن هناك تأثير اسمه (الترقيم النفسي)، حيث يبدأ في إضعاف الأحاسيس لدينا، فتبدو كل ضحية إضافية أقل وأقل أهمية، بحيث لا تشعر بأن خسارة 88 حياة أسوأ من 87 حياة".
ويجد الكاتبان أن "الأسوأ من ذلك أنه مع تزايد عدد الأشخاص المهددة حياتهم نخسر أحيانا الشعور، ولا نجعل أي قيمة للعدد النهائي للضحايا، ويصبحون مجرد أرقام".
ويرى الباحثان أن "هذه النظرة العميقة إلى السيكولوجية الأخلاقية تساعد في توضيح الاهتمام المفاجئ للكونغرس في إنهاء دعم الحرب السعودية في اليمن، فمنذ أن دخل السعوديون الحرب في 2015 تسببت العمليات السعودية بمقتل ما يزيد على 50 ألف شخص، وتهدد 14 مليون يمني آخر بالمجاعة، فيما وصف بأنه أسوأ أزمة إنسانية، وأمريكا شريكة في الأزمة، حيث توفر للسعودية القنابل التي تقصف بها أهدافا في اليمن، وتقوم بتزويد الطائرات السعودية المهاجمة بالوقود، والمساعدة في تحديد الأهداف، بالإضافة إلى توفير الغطاء الأخلاقي".
ويستدرك الكاتبان بأنه بالرغم من هذه الجرائم، فإن مجلس الشيوخ صوت في آذار/ مارس، ضد جهد من الحزبين لإنهاء المشاركة الأمريكية في الحرب السعودية، وفي آب/ أغسطس، وبعد أن ضربت قنبلة أمريكية حافلة مدرسية، وقتلت 40 طفلا، قاد السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي جهدا للحد من المساعدة الأمريكية للسعودية، فيما أسماه (ذبح الأطفال اليمنيين)، وباء هذا الجهد أيضا بالفشل.
ويلفت الباحثان إلى أن "قرارا لمجلس الشيوخ الأسبوع الماضي يطالب بإنهاء المشاركة الأمريكية في الحرب في اليمن، حظي بدعم قوي، ويبدو أن الأعلام ينشر المزيد من الأخبار عن اليمن، فيما رفع السياسيون الأمريكيون أصواتهم، فكتب بيرني ساندرز مقالا عن اليمن في "نيويورك تايمز" مثلا".
ويتساءل الكاتبان: "ما الذي تغير؟ هذه المرة كان هناك ضحية واحدة للنظام السعودي، لكنه بارز، تلقت جريمة قتله البشعة اهتماما واسعا لم يحظ بها ضحايا آخرون قبله: جمال خاشقجي، مواطن سعودي وكاتب في صحيفة (واشنطن بوست)، قتل في القنصلية السعودية في اسطنبول في تشرين الأول/ أكتوبر، وأقر السيناتور تيم كين، خلال حديث له على (ناشيونال بابليك راديو)، بأنه مع وجود الملايين الذين يواجهون المجاعة في اليمن، فإن مقتل خاشقجي شكل (الشرارة التي جعلت مجلس الشيوخ يقف ويقول كفى.. كفى)".
ويستدرك الباحثان بأنه "بالرغم من أنها ظروف محزنة، إلا أنها من ناحية سيكولوجية معقولة، فقد أظهرت دراسات عديدة بأن الناس يميلون للشعور مع ضحية واحدة يمكن التعرف عليها، مثل خاشقجي، أكثر مما يشعرون به مع ضحايا عديدين مجهولي الهوية، بالإضافة إلى أن تفاصيل قضية خاشقجي -مثل كونه صحافيا يكتب لصحيفة مشهورة، والطريقة التي قتل فيها- جعلت القصة تستحوذ على اهتمام التقارير الإخبارية، فقصة آسرة حول شخص معين تخلق في عقولنا صورا قوية ترتبط بالضحية، وتثير لدينا عواطف قوية، مثل الصدمة والحزن والغضب.، وفي المقابل فإن قصص المجاعة في اليمن تنقل إلينا من خلال إحصائيات لأشخاص مجهولين، وكما كتب المؤلف بول برودور ذات مرة: (الإحصائيات هي لبشر، لكن تم تجفيف الدموع)".
وينوه الكاتبان إلى أن "من المفارقات أن قصة القتل البشعة التي تعرض لها خاشقجي أثارت غضبا عاطفيا لم تتمكن المناشدات نيابة عن ملايين اليمنيين الجائعين وجبال من الإحصائيات من تحقيقها، فقد انتقد خاشقجي مكررا ولي العهد محمد بن سلمان والنظام السعودي للحرب على اليمن ونتائجها المدمرة، وكتب في 2017: (إن صور الأطفال الجوعى يجب أن تغمر حتى أشد المدافعين عن المصالح الأمنية السعودية التي قادتنا إلى تدمير أفقر الدول العربية وأكثرها أمية)، كان يجب علينا أن نشعر بالأزمة الإنسانية في اليمن من قراءة مقالات خاشقجي، لكن مقتله هو الذي فتح عيوننا".
ويفيد الباحثان بأن "قوة قصة واحدة في تجاوز الأرقام والإحصائيات شوهدت من قبل أيضا، فمن منا لا يتذكر صورة الطفل السوري اللاجئ ميتا على أحد الشواطئ التركية؟ فحوالي 250 ألف ضحية لم يولدوا اهتماما بالأزمة السورية، لكن صورة إيلان كردي لفتت جميع الأنظار للأزمة، وقبل ذلك بسنوات كتب نيكولاس كريستوف عن قلة الاهتمام بالإبادة في دارفور، حيث قتل حوالي 300 ألف شخص، ودمرت العديد من القرى، قائلا: (لو تحركت ضمائرنا -ربما بسبب كلب كبير العينين والأذنين في دارفور.. إن كان الرئيس بوش والجمهور في العالم لم يتحركوا لذبح مئات آلاف البشر مثلنا.. فربما يكون أملنا الوحيد هو أن تحركنا معاناة كلب)، وكان قد كتب ذلك بعد أن قرأ قصة المحاولات (البطولية) لإنقاذ كلب عالق على متن سفينة معطلة في الباسيفيكي، التي كلفت 300 ألف دولار".
ويقول الكاتبان: "هنا رسالة قوية ومهمة: للحصول على معنى من الإحصائيات مهما كان النطاق واسعا، لا يمكننا الاعتماد على حدسنا، فهذا يجعلنا ندير ظهرنا بهدوء ضد الاعتداءات، في الوقت الذي يجب أن يحركنا فيه الغضب لنقوم بفعل، ولحسن الحظ فإن لدينا آليات أخرى لاتخاذ قرارات بناء على المنطق والحجج الأخلاقية، وهو ما يسميه المتخصص النفسي دانيال كاهنيمان (التفكير البطيء)، ويميل صناع القرار الأمريكيون إلى التركيز على الأمن القومي فقط من (المصالح القومية) الأمريكية، اما التفكير البطيء فسيشمل تقييم أثر الحرب في اليمن على الأهداف كلها التي تدعي أمريكا أن تثمن، بما في ذلك حماية الحياة البريئة، وقرار مجلس الشيوخ مثال جيد، فإن تم فإنه سيدعو الرئيس ترامب لسحب القوات المسلحة من المشاركة في أي قتال في اليمن".
ويختم الباحثان مقالهما بالقول إنه "بدلا من انتظار جرو جميل، أو مقتل صحافي لتحريكنا، فإنه يجب علينا استخدام التفكير البطيء عندما نريد تحديد سياساتنا وإجراءاتنا وقوانيننا ومؤسساتنا ليسمح لنا بالتجاوب مع الأزمات الإنسانية بالمستوى والزخم الذي نجعله لقيمة حياة الإنسان".
لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)