هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قضية لا ينتهي النقاش فيها، ولا يملُّ المتحدثون كل عام من إثارتها، فقبل كل عيد للمسيحيين، يثار الحديث حول: حكم تهنئتهم بأعيادهم، ولست هنا في مقام بيان ما أفتي الناس به، وما أفتاهم به من قبل عدة مجالس علمية وفقهية بالجواز، فهي قضية ـ شئنا أم أبينا ـ خلافية، وستظل خلافية، ولكن هناك ملاحظات مهمة ينبغي أن نقرأها في موقف المحرمين للتهنئة، تدل على أخطاء في التناول والطرح.
1 ـ الخطأ الأول الذي يقع فيه عدد من المحرمين، أنهم يجعلون من يهنئ، أو من يجيز التهنئة أنه يقر بعقيدة غير المسلم، فمن هنأ مسيحيا فكأنه رضي بعقيدة المسيحي في المسيح، وهو كلام باطل، إذ لو فعل ذلك مسلم وأقر بعقيدة الآخر إيمانا منه بها، لكفر بدينه، وهو ما لم يقصده ولم يقله أي شخص قام بتهنئة غير المسلم بعيده، فهو يهنئه بمناسبة اجتماعية، لا يهنئه باختياره عقيدته التي تتنافى جوهريا مع عقيدته كمسلم.
الحكم الشرعي والفتوى
2 ـ الخطأ الثاني وهو منزلق كبير، وقع فيه كثير ممن يفتون بالتحريم، خاصة من كانوا يهنئون المسيحيين في مصر، ثم بعد الانقلاب تغيرت النظرة، بسبب موقف الكنيسة من الانقلاب العسكري في مصر، أنهم خلطوا بين الحكم الشرعي والفتوى، فالحكم الشرعي من الموقف من غير المسلم بأن نُبرّه أم لا، بينه قوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الممتحنة: 8.
فالآية حكم واضح في علاقة المسلم بغير المسلم، من حيث برّه، والبرّ هو جماع لكل الخير، والقسط: هو أعلى درجات العدل، أما ما يطرأ على هذه العلاقة فهذه فتوى، قد تتغير من شخص لآخر، ولا يحكم فيها بالعموم على كل أهل ديانة ما، وهو ما يخطئ فيه بعض من جعل من ظرف طارئ مثل الانقلاب في مصر، وتأييد الكنيسة المصرية له، ليجعل العلاقة مع كل مسيحيي مصر علاقة عداء.
إقرأ أيضا: كيف رد إسلاميو مصر على دعوات مقاطعة المسيحيين؟
وقد كانت العلاقة قبل الانقلاب، وأثناء ثورة كانون ثاني (يناير)، علاقة من مفاخر المصريين، ثم جاء الانقلاب، وأيده مسيحيون ومسلمون، وليس معنى ذلك قطع العلاقة تماما مع كل من أيد الانقلاب، حتى أفتى بعض المشايخ لرافضي الانقلاب أن من له أب أو أم يؤيد الانقلاب عليه أن يقاطعه، وهي فتوى لا تصح شرعا من حيث إطلاقها، فالله عز وجل قال عن الأبوين الكافرين: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) لقمان: 15. فإذا كان هذا هو الموقف من أبوين مشركين، فما بالنا بأبوين مسلمين، ولو كانا من أكثر الناس معصية؟!!
3 ـ الخطأ الثالث المنهجي الذي يقع فيه المحرمون: أنهم يستدعون فتاوى لعلماء سابقين، بنيت على اعتبارات زمانهم، ولها سياق معروف، مثل ما ينقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رغم أن النقل عنه متعارض - وابن القيم، وغيرهما، من عدم جواز التهنئة، وقد بنى هذان الفقيهان الكبيران ـ وغيرهما ـ رأيهما على نصوص شرعية، وعلى واقع عاشه كل منهما، وقد كان في ذلك الوقت وجود خيانات من بعض غير المسلمين.
فالواقع الذي يعيشه الفقيه يشكل جزءا مهما من وعيه الفقهي ورأيه، ولذا سنرى موقف كل منهما يختلف في معاملة غير المسلم، فنموذج بناء الكنائس مثلا، يرفضه ابن تيمية وابن القيم، بينما رأينا فقيهين مصريين: الليث ابن سعد، وابن لهيعة، يفتيا السلطان بأن بناء الكنائس: هي من عمارة ديار الإسلام. ويفتياه بجواز ذلك، ورأيهما نتج عن واقع عاشاه كذلك.
أي رأي علمي وفقهي يتناول قضايا التعامل مع الآخر، ينبغي أن يكون مبنيا على نصوص وقواعد شرعية مهمة
إقرأ أيضا: مسلمو الغرب يطالبون بيوم عالمي للتعايش بين الشعوب
هناك أخطاء أخرى يمكن رصدها في فتاوى المحرمين لتهنئة غير المسلمين بأعيادهم، وهي كما ذكرت لا تنفي وجود خلاف فقهي في الأمر كان وسيكون، لكن المهم الذي ينبغي علينا الاستفادة منه: أن أي رأي علمي وفقهي يتناول قضايا التعامل مع الآخر، ينبغي أن يكون مبنيا على نصوص وقواعد شرعية مهمة، تجمع بين كليات الشريعة وجزئياتها، ولا تُشعر المسلم بتناقض بين واقعه الذي يعيشه، وبين إسلامه الذي يريد الالتزام به، والحياة والممات عليه.
[email protected]