هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يواصل الكاتب والباحث المغربي منير الجوري، في الجزء الثاني من رصده، لمآلات الربيع العربي في نسخته المغربية، استعراض مظاهر التراجعات على مستوى ترسيخ الانتقال الديمقراطي، الذي بشّر به دستور العام 2011، وكذا فشل النخب السياسية ليس فقط في الكشف عن ما يمتلكه المغرب من ثروات، وإنما أيضا في مآلاتها.
وهذا نص الجزء الثاني من المقال:
أين الثروة؟
أين الثروة؟ هكذا تساءل الملك في أحد خطاباته، وهو السؤال الذي ظل يتردد في الأوساط السياسية والاجتماعية والشعبية بشكل محتشم قبل أن يصبح دارجا حاضرا بقوة في التحليل السياسي والتهكم الشعبي.
وقد تَكَشَّفَ بعضٌ من الجواب على هذا السؤال في تقرير اللجنة البرلمانية الاستطلاعية حول أسعار المحروقات في أيار (مايو) 2018، فبقدر ما كشف هذا التقرير جشع شركات المحروقات واحتكار هذه المادة وحجم الأرباح الضخمة التي حققتها السنة المنصرمة واستفادة الشركات الكبرى على حساب المواطن، الذي قيل إن تحرير المحروقات ونظام المقايسة جاء لمصلحته، فقد أظهر أيضا الحماية السياسية التي تستفيد منها هذه الشركات والتي بسببها يتم إقبار مثل هذه التقارير الكاشفة للفساد والريع الاقتصاديين.
ويساهم في ذلك الجمود الذي تعرفه مؤسسات الحكامة مثل مجلس المنافسة والذي لم يتم تعيين رئيس جديد له إلا في تشرين ثاني (نوفمبر) الماضي بعد سنوات طويلة من العطالة.
الديناميات المجتمعية، تعد مؤشرا إيجابيا وأملا للبناء، وتضع بين أيدي المعنيين والمهتمين والمتابعين حقيقة التطور النوعي الذي يعرفه الشارع المغربي
كما أن سؤال الثروة الوطنية يظل مطروحا على مجلس الحسابات الذي تتميز تقاريره بالانتقاء المفضوح في اختيار المؤسسات التي يجري عليها افتحاصه، حيث لازال يستثني العديد من المؤسسات التي تدير نسبة مهمة من ثروات المغرب مثل المكتب الشريف للفوسفاط وصندوق الإيداع والتدبير، كما أن تقارير هذا المجلس تظل حبرا بعيدا عن إجراءات المساءلة والمحاسبة، وهو عجز آخر يخفي أجزاء أخرى من الجواب على سؤال: أين الثروة؟
سؤال الثروة المهدورة والسلطوية القائمة ينعكس بشكل مباشر على المواطن في حقوقه الاقتصادية والاجتماعية. فعلى المستوى الاقتصادي، كان العنوان الأبرز لسنة 2018 هو فشل النموذج التنموي المغربي في الاستجابة لانتظارات المغاربة.
هذا الفشل أكده من جديد خطاب العرش لهذه السنة وأكدته التقارير المتناسلة لمؤسسات الحكامة مثل المجلس الاجتماعي والاقتصادي. وظهر ذلك جليا على مستوى ضعف نجاعة الاستثمار العمومي ومعدلات النمو جد المنخفضة.
إقرأ أيضا: ملك المغرب ينبه لتأخر مشاريع.. فهل هي موجة عزل جديدة؟
ومن أهم أسباب هذا الفشل هو أن هذا النموذج التنموي ينطلق من خلفية اقتصادية ريعية تحميها سلطة مستبدة فاسدة تدعم فئة قليلة من الناس لتحقيق أرباح وإنجاز مشاريع، فيما يتم وضع البعدين التنموي والاجتماعي في آخر الاعتبارات.
وحسب المنتدى الاقتصادي العالمي فإن سوء بيئة الأعمال في المغرب مرده إلى انتشار الرشوة. كما أن التجارة الخارجية تكون محكومة في الكثير من الأحيان بقرارات المصلحة السياسية، فقد جدد المغرب والاتحاد الأوروبي اتفاقية الصيد البحري في 20 تموز (يوليو) 2018 بقيمة سنوية لا تتعدى 52 مليون يورو، وهو رقم ضعيف إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأضرار البيئية واستنزاف الثروة السمكية للمغرب، خاصة أن ضعف المراقبة والمتابعة أتاح للأساطيل الأوربية خرق البنود التي تمنع ذلك. ويبدو أن هذه الاتفاقية تحكمها الخلفية السياسية على حساب مصلحة الاقتصاد أو البيئة أو التنمية المستدامة أو حسن تدبير الثروة الوطنية.
ولقد ولّد هذا النموذج تفاوتات مجالية واجتماعية كبرى وفوارق على مستوى توزيع الثروة، كما أفرز ظواهر خطيرة تهدد السلم والاستقرار الاجتماعيين مثل البطالة خاصة في صفوف الشباب، والفقر والهشاشة والجريمة، ولقد شكلت هذه الآفات الأسباب الحقيقية التي أدت إلى فاجعة قتل سائحتين بمنطقة إمليل خلال كانون أول (ديسمبر) الأخير، والتي أكدت عجز المقاربة الأمنية وفشلها في الحد من تنامي الظواهر الإجرامية.
ومع ذلك فإن السلطة ماضية في تنفيذ توصيات المؤسسات المالية الدولية التي أوصت المغرب بإعادة تموقع دور الدولة أساسا في الوظائف التقليدية والتراجع عن دورها في القطاعات الاجتماعية الحيوية كالصحة والتعليم، حيث رفعت الدعم عن المواد الأساسية وحررت قطاع المحروقات على حساب القدرة الشرائية للمواطنين. ما أنتج تلك المشاهد المؤسفة التي تابعها العالم لآلاف من الشباب الذين نزحوا نحو المدن الشمالية خلال أيلول (سبتمبر) الماضي بحثا عن فرصة للهجرة نحو أوروبا في قوارب غير مؤهلة، دون أن يكترثوا باحتمالات الموت وسط مياه البحر الجارفة. مشاهد هي أقرب إلى الانتحار الجماعي ولَّدَها خناق اليأس والتهميش والتفقير والتجهيل الذي يحيط برقبة الشباب فلا يترك لهم الكثير من الخيارات لأجل العيش الكريم.
صوت الشارع
انتهى العرض فكشفت الأضواء حجم الآثار وعمق الجراح التي كانت تخفيها الآمال المعلقة على الشعارات والوعود، وعاد الشعب ليرفع صوته فتزايدت الاحتجاجات الشعبية خلال السنتين الماضيتين بشكل كمي ونوعي وإبداعي. من الريف الذي صار أيقونة النضال الشعبي المسؤول، بعد أن قدم نموذجا في النضج والصمود والتضحية، إلى جرادة وزاكورة اللتين عرتا على واقع التهميش والهشاشة التي تنبعث احتجاجا سلميا راقيا يضفي مزيدا من المصداقية على المطالب المشروعة، وغيرها من المناطق والشرائح المجتمعية في التعليم والصحة وسائقي الحافلات والفلاحين والجماعات المحلية و...، والتي جددت التأكيد على أن الشعب المغربي يعرف دينامية حقيقية وحركية متنامية يواجه من خلالها انسداد المشهد الرسمي وانغلاقه على التسلط والاستبداد والاحتكار والريع ومصالح الكبار.
المقاطعة أسلوبا للاحتجاج
كما عرفت هذه السنة تطورا جديدا في أشكال الاحتجاج من خلال النجاح الكبير الذي عرفته مقاطعة منتوجات من طرف فئات واسعة من المغاربة، همت مجموعات اقتصادية كبرى تنشط في قطاعات المحروقات والصناعات الغذائية؛ وذلك احتجاجاً على ارتفاع أسعار هذه المنتوجات واتساع هوامش ربح تلك الشركات.
وأمام هذا الاحتجاج النوعي غير المسبوق، وعوض أن تلجأ السلطة إلى معالجة اقتصادية للظاهرة تراعي الوضع الاجتماعي وتتفهم المطلب الشعبي، لجأ بعض أعضاء الحكومة إلى تأجيج غضب الشارع عبر إطلاق تصريحات غير مسؤولة واصطف بعضهم إلى جانب بعض الشركات المقاطعة.
إقرأ أيضا: شهران من المقاطعة بالمغرب تكبد شركتين ملايين الدولارات
إن هذه الديناميات المجتمعية، تعد مؤشرا إيجابيا وأملا للبناء، وتضع بين أيدي المعنيين والمهتمين والمتابعين حقيقة التطور النوعي الذي يعرفه الشارع المغربي، من خلال مواقفه الرافضة للسلطوية وما يترتب عليها من فساد اقتصادي وتأزم اجتماعي وحقوقي.
هذه الدينامية التي انطلقت منذ سنوات طويلة تُواصل نموها واتساعها وتعاظمها وتُجدد أشكالها وأنماطها وسبلها، لكنها تصر على بناء نموذج قائم على النضج والمسؤولية والقوة، وهو ما تعكسه سلميتها كقيمة بارزة ومشتركة بين مختلف الاحتجاجات، ثم مشروعية وعدالة المطالب التي ترفعها والإبداع في عرضها ما يمنح هذه الاحتجاجات صلابة وتميزا.
إلا أن السلطة لازالت تعيش سكرة الاستعلاء التي تعمي وتصم، فكان تفاعلها مع هذه الاحتجاجات ينم عن استهتار بمستقبل البلاد ولعب بسلامته واستقراره. فهي لم تكتف بالالتفاف على مطالبه وإهمالها لكنها أيضا أمعنت في معاقبة الشعب على جرأته حين خرج يطلب الحرية المأسورة والكرامة المدوسة والعدالة المفقودة.
وهكذا فقد كانت من أشد اللحظات التي عاشها الشعب المغربي خلال سنة 2018 تلك التي صدرت فيها أحكام قضائية بالسجن لقرون في حق معتقلي الريف وجرادة الذين تجاوز عددهم 700 معتقل جلهم ينتمون إلى فئة الشباب. وقد سجلت منظمات حقوقية وهيئات دفاعهم أثناء سريان اعتقالهم ومحاكماتهم استعمال القمع الشرس، إلى جانب تعريضهم للتعذيب والعنف ولممارسات حاطة وماسة بالكرامة أثناء إيقافهم والتحقيق معهم، فضلا عن غياب ضمانات وشروط المحاكمة العادلة.
أفق جديد
رغم ما تقدم من مؤشرات دالة على حجم التضييق الذي تمارسه السلطوية على الشعب المغربي، ابتداء بإقصائه من المشاركة الفعلية في صناعة القرارات السياسية ومرورا بالوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي يرزح تحته المواطنون وليس انتهاء بآلة القمع والتضييق والاعتقالات والمحاكمات التي تنسج في حق المعارضين لهذه السياسات أو المطالبين بحقوق العيش الكريم، فإن مؤشرات كثيرة تطفو على السطح لتعيد الأمل في مستقبل أفضل.
أهمها هي درجة الوعي الذي بات سمة بارزة لدى فئات عريضة من الشعب المغربي، وعي بالحقوق ومشروعيتها، ووعي بالمسؤولين عن ضياعها، ووعي بالمسؤولية في الدفاع عنها والمطالبة باسترجاعها.
السلطة لم تكتف بالالتفاف على مطالب الشعب وإهمالها لكنها أيضا أمعنت في معاقبة الشعب على جرأته حين خرج يطلب الحرية المأسورة والكرامة المدوسة والعدالة المفقودة.
إقرأ أيضا: مريم بطلة "القراءة العربي".. تقرأ 6 ساعات يوميا وهنأها الملك
هنا يطرح السؤال العريض عن مسؤولية النخب والتنظيمات السياسية والحقوقية والمدنية والاجتماعية، ذلك أن هذا التطور النوعي الذي يعرفه المجتمع يستحق تطورا موازيا بل متقدما من طرف النخبة التي تحمل على عاتقها مسؤولية القيادة وصناعة الأفكار واستيعاب اللحظة التاريخية وإكراهاتها بعيدا عن الذاتية الأيديولوجية من أجل ضمان انتقال ديمقراطي بدون أضرار تهدد البلاد وأهلها.
إقرأ أيضا: المغرب.. احتكار السلطة يدفع باتجاه الحراك الاجتماعي(1من2)