باحث أمريكي: سياسة واشنطن طموحة لكنها غير واقعية

جحيم النوايا الحسنة: صناع السياسة الخارجية الأمريكية وتراجع صدارتها
المؤلف: ستيفن م. والت
الناشر: فارار شتراوس وجيرو
الطبعة الأولى: 2018
عدد الصفحات: 400

يختلف التحليل الأكاديمي للسياسة الخارجية الأمريكية بحسب المدرسة التي ينطلق منها الكاتب. فالكتاب الذي بين أيدينا هو للأكاديمي والخبير بالشؤون الدولية بجامعة هارفرد ستيفن والت. الكاتب لا ينتمي للمدرسة الواقعية في نظريات العلاقات الدولية فحسب بل إنه يُعتبر من أهم منظريها إلى جانب جون ميرشايمر. يُحاول هذا الكتاب توضيح أسباب فشل السياسة الخارجية الأمريكية خاصةً في الخمسة وعشرين عامًا المنصرمة. 

 

طموحة وغير واقعية

ينطلق الكاتب من فرضية مفادها أن السياسة الخارجية الأمريكية طموحةٌ ولكنها غير واقعية، لذا فهي في أغلب الأحيان محكومةٌ بالفشل. هذا الفشل يعود بشكلٍ أساسيّ إلى هيمنة وتحكم كتلة من الليبراليين بصناعة السياسة الخارجية الأمريكية. لذلك، ما لم تتغير هذه الفئة التي تتحكم بسياق وصناعة السياسة الخارجية الأمريكية، فإن نفس الأخطاء سوف تتكرر في السنوات المقبلة مرة أخرى. بناء على ذلك وبحسب الكاتب فإن هناك حاجة ماسة لتغيير النخبة التي تهيمن على صناعة السياسة الخارجية. 

يتكون الكتاب من مقدمة وسبعة فصول. يؤكد ستيفن والت بمقدمة الكتاب أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد نموذجًا يُحتذى به بعد انتهاء الانتخابات الرئاسة الأمريكية وفوز دونالد ترامب في عام 2016. فبدل أن تكون أمريكا منارة المُثل الليبرالية ونموذج الحكم الديمقراطي المُستنير، أصبحت نموذجا يحتذي به رؤساء الحركات القومية المتطرفة والكارهة للأجانب مثل خِيرت فيلدرز في هولندا ومارين لوبان في فرنسا. 

 

إقرأ أيضا: عسكرة السياسة الخارجية الأمريكية

 

هذا التراجع في الصدارة الأمريكية بالقيم الليبرالية والديمقراطية يعود لفشل سياسات أمريكا الخارجية في الخمسة والعشرين سنة الماضية. ففي معظم الملفات الخارجية كان هناك فشل تام، الأمثلة تكثر بهذا الصدد أهمها غزو أفغانستان والعراق. إدراك الناخب الأمريكي لهذا الفشل فتح الطريق لشخص مثل ترامب أن يُصبح رئيس الولايات المتحدة، حيث إنه بحملاته الانتخابية وصف السياسة الأمريكية مرارًا بأنها "كارثة كاملة" ما أدى ولو بشكل جزئي إلى فوزه بالرئاسة. 

 

سجلّ كئيب

الفصل الأول والمُعنون بـ "سجل كئيب" يلخص قصة السياسة الخارجية الأمريكية في الوقت الراهن. يَدعي والت ستيفن أن مُعظم ملفات السياسة الخارجية الأمريكية في الوقت المعاصر أسوأ مما كانت عليه قبل عام 1992، حيث الليبرالية الديمقراطية في تراجع وانحسار، والصورة الأمريكية التي كانت في صدارة الاستقرار والحكم الرشيد في انهيار متواصل حتى قبل ظهور ترامب على الساحة السياسية. حتى الإرهاب الدولي والأسلحة النووية ازدادوا انتشارًا رغم الجهود الأمريكية بهذا الصدد. علاوة على ذلك عدد من الأقاليم مثل الشرق الأوسط غارقة بالصراعات، بسبب التدخلات الأمريكية، في حين قد تحتاج هذه الأقاليم لعقود للعودة لما كانت عليه بالسابق. لذا وبالمجمل فإن الفشل بالسياسة الخارجية الأمريكية أكثر من النجاحات. 

الفصل الثاني: يتعرض لأسباب إخفاقات ما يسميه الكاتب بـ"الليبرالية المهيمنة"، من هذه الأسباب، مُبالغة القيادة الأمريكية بقوة الولايات المتحدة على تحقيق الإنجازات سيما بواسطة القوة العسكرية. بحسب الكاتب وبرغم الالتزام بنشر القيم الليبرالية، فإن واشنطن تدعم حكومات استبدادية في السعودية، وأوزباكستان وباكستان كما وتُغمض عيونها عن انتهاكات حقوق الإنسان بدول متحالفة معها مثل إسرائيل ومصر. لذا فكلما تحاول أمريكا نشر قيمها الليبرالية، تزايدت معارضة ومقاومة الشعوب لها. 

 

إقرأ أيضا: فورين بوليسي: مؤسسة السياسات الخارجية الأمريكية يائسة

الفصل الثالث يُناقش قدرة كتلة من "جماعة السياسة الخارجية" على السيطرة على الخطاب العام الأمريكي بما يتعلق بسياسة واشنطن الخارجية. هذه الفئة ذات التوجه الليبرالي المهيمن تؤيد التدخلات الأمريكية وتعزيز دورها في العالم، حيث طالما أن أمريكا مشغولة في الخارج طالما زادت وتعززت مصالح هذه الكتلة. لذلك، لا تكاد تجد صوتا واحدا من داخل هذه الكتلة من "جماعة السياسة الخارجية" في واشنطن ممن كانوا ضد غزو العراق في عام 2003، بل إن الأصوات المعارضة لهذا الغزو كانت خارج واشنطن بل يتم تهميشها بشكل كامل في مراكز الأبحاث والإعلام والمؤسسات الأمريكية الرسمية وغير الرسمية. 

الفصل الرابع والمعنون بـ "تَرويج سياسة خارجية فاشلة" يتناول أساليب ترويج الليبرالية المُهيمنة وتعزيز دور أمريكا في العالم. تَعتمد هذه الكتلة من صناع السياسة الأمريكية على أساليب كثيرة منها، تضخيم المخاطر الخارجية التي قد تهدد أمريكا، والمبالغة بالفائدة التي سوف تَعود على أمريكا والعالم من هذه التدخلات الأمريكية في شؤون الدول الأخرى من أمن وسلام وازدهار. إضافة إلى ذلك، تلجأ هذه الكتلة المُهيمنة على سياق السياسية الخارجة الأمريكية إلى إخفاء التكاليف الحقيقة للتدخلات الأمريكية في الخارج. يعود ذلك إلى أنه كلما انهمكت أمريكا في الخارج كلما زادت فرص الحاجة إلى المتخصصين والخبراء وفرص العمل والترقيات الوظيفية لهذه الكتلة المنتفعة من هذه التدخلات، لذا لا يوجد من يعارض هذه السياسات الأمريكية التَدَخُّلِيّة في داخل "جماعة السياسة الخارجية". 

"من يتحمل المسؤولية؟" عنوان الفصل الخامس، حيث يتوسع الكاتب بنقده لكتلة "صناع السياسة الخارجة الأمريكية" كما يتعرض لأسماء عدد كبير من الخبراء والمستشارين والسياسيين الذين قدموا توصيات غير صحيحة، كانت نتيجة أخطائهم الفادحة أنه تم تعيينهم في مناصب أفضل بدل من طردهم من وظائفهم. مثلا إليوت أبرامز، الذي حرض على القيام بانقلاب في غزة بقيادة محمد دحلان ضد حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، معرفة "حماس" المسبقة بهذا المشروع جعلها تُسيطر على القطاع، فبدلا من محاسبة أبرامز عن عدم الإطاحة بحركة "حماس"، تم تعينه لاحقا بمنصب أفضل بمجلس العلاقات الخارجية. على العكس من كان يقدم النصائح التي تجلب الخير لأمريكا تم إقصاؤهم وتهميشهم في عملية صنع السياسة الخارجية.

في الفصل السادس "كيفية عدم إصلاح سياسة أمريكا الخارجية" يُشدد الكاتب على أن هناك فجوة دائمة بين وجهات نظر "كتله السياسات الخارجية" وعامة الشعب الأمريكي. كما يذكر الكاتب أنه لا يوجد فرق كبير بين سياسات ترامب ومن سبقه أمثال باراك أوباما وجورج بوش. فمثلا أوباما رَحل أكثر من خمس ملايين شخص خلال فترة رئاسته للولايات المتحدة الأمريكية، بالمقارنة فإن العدد أقل من ذلك تم ترحيلهم بالعام الأول من فترة تولي ترامب الرئاسة. لذلك وبحسب الكاتب فإنه لا يوجد تغيير جذري بسياسات أمريكا مع تولي ترامب الرئاسة كما يعتقد الكثير من المراقبين. فبرغم أن استراتيجيات ترامب الكبرى يمكن تسميتها "الهيمنة غير الليبرالية"، حيث إن أمريكا بقيت تسعى للصدارة كما أن دورها العسكري لم يتراجع في فترة ترامب إلا أن أمريكا لم تعد تلتزم بقوة بنشر القيم الليبرالية كما كانت بالسابق..

 

من أراد الخوض بنقاشات مُعمقة ونقدية ليس فقط للسياسات الخارجية الأمريكية فحسب بل وللهيمنة الليبرالية، فإن هذا الكتاب الأمثل لذلك

         
الفصل الأخير "نهجٌ أفضل" يُنبه به المؤلف إلى أن السياسات الأمريكية كلفت الولايات المتحدة تريليونات الدولارات، وانتهاكا لحقوق الإنسان، وفشلا مستمرا في حروبها، وتراجعت صدارة وصورة أمريكا في العالم، لذلك فالكاتب يحاول الإجابة عن سؤال أساسي في هذا الصدد وهو "كيف يمكن تغيير السياسات الخارجية الأمريكية للأحسن؟".

يضع ستيفن والت الكثير من الاقتراحات أهمها: أن تقوم أمريكا بحد تدخلاتها الخارجية ووضع معايير صارمة للتدخل في شؤون الغير واقتصار ذلك على أقاليم ذات أهمية استراتيجية لأمريكا، حيث من الممكن أن تتأذى المصالح الأمريكية بها إذا لم يتم التدخل. 

بناء على ذلك وبحسب الكاتب لم يكن هناك داع لغزو العراق وجلب الدمار والموت للعراق. بعبارة أخرى، أمريكا يجب أن تتدخل في شؤون الدول الأخرى عندما يكون هناك تهديد مباشر لمصالحها أو أن هناك خطرا من هيمنة دول عُظمى أخرى مثل: الصين على هذه المناطق الاستراتيجية ذات الأهمية الاستراتيجية لأمريكا. الكاتب في النهاية يرى أن أمريكا على مفترق طرق فإما أن تكمل بنفس الطريق وتعيد تكرار نفس الأخطاء الفادحة أو تختار طريق المدرسة الواقعية التي تشدد على حدود استخدام القوة والتدخلات العسكرية في الدول الأخرى.

 

إقرأ أيضا: ترامب يقوض مؤسسة الخارجية الأمريكية.. قتل السياسة

لا شك أن هذا الكتاب يُقدم نقدا لاذعا وعميقا ليس فقط للسياسة الخارجية الأمريكية بل للنهج والمؤسسات التي تقوم بالمشاركة برسم هذه السياسات الخارجية وخصوصا الفصل الثالث والخامس. 

 

إقرأ أيضا: فورين بوليسي: هذا كل ما تحتاجه لشراء التأثير في واشنطن

يُعتبر هذا الكتاب من أهم الكتب التي كُتبت بهذا الموضوع إلى جانب كتاب جون ميرشايمر "الوهم الأعظم: الأحلام الليبرالية والواقع الدولي". ولذلك فإن كتاب ستيفن والت مهم للغاية لطلاب وأساتذة العلاقات الدولية والعلوم السياسية. بكلمات أخرى، من أراد الخوض بنقاشات مُعمقة ونقدية ليس فقط للسياسات الخارجية الأمريكية فحسب بل وللهيمنة الليبرالية، فإن هذا الكتاب الأمثل لذلك. يُذكر أن النقد الموجود بهذا الكتاب يغلب عليه الطابع العَملي وليس النظري كما هو في كتاب جون ميرشايمر. 

في الختام، يُؤخذ على الكاتب إيمانه بأن كتلة صُناع السياسة الأمريكية الخارجية أو الليبرالية المهيمنة عندهم نوايا حسنة وإنهم يريدون الازدهار والسلام لأمريكا وللعالم، حيث من يُمعن النظر بسياسات أمريكا الخارجية وخصوصا بالشرق الأوسط يرتاب بأن هناك فعلا نوايا حسنة بهذه السياسات وخصوصا منها الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان بل والدعم غير المشروط لحليفة أمريكا إسرائيل. 


*باحث مُشارك بمركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية بجامعة إسطنبول "زعيم" ومحاضر في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بنفس الجامعة.