هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
نشرت مجلة "ذي أتلانتك" مقالا للباحثة ريادة عاصموفيك أكيول، تقول فيه إن التقاليد الإسلامية الحداثية ليست بمنأى عن الاتجاهات العالمية، بما في ذلك التيارات السلفية، إلا أن الإرث الفكري للبوسنة يقدم الكثير من الأدلة على أن أوروبا والإسلام بعيدان عن كونهما غير متوافقين.
وتبدأ الباحثة مقالها، الذي ترجمته "عربي21"، بالقول إنه عندما قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الصيف الماضي، بأنه يريد إنشاء "أطر وقواعد" للمؤسسات الإسلامية في فرنسا، فإنه لم يكن وحيدا في ذلك، فغيره من الزعماء الأوروبيين والمفكرين يبذلون جهدا أوسع لإيجاد طريقة للتعبير عن الدين بشكل يتداخل مع ما يرونه قيما أوروبية.
وتستدرك أكيول بأن "ما لم يلاحظوه هو أن إسلاما أوروبيا متسامحا موجودا في أوروبا منذ قرون، في جنوب شرق القارة، حيث يرى المسلمون البوسنيون والألبان والأتراك أنفسهم على أنهم مسلمون تماما وأوروبيون تماما، وأظهر استطلاع لشركة (بيو) للاستطلاعات عام 2013، بأنهم من بين المسلمين الأكثر ليبرالية في العالم، فمثلا، أقلية فقط من الملسمين البوسنيين المعروفين بالبشناق يعتقدون أنه يجب رجم الزاني وقتل المرتد، مقارنة مع أكثرية تؤيد العقوبتين في كل من باكستان ومصر".
وتقول الكاتبة: "في حالة شعبي البشناق يتبين بأن المفاهيم يمكن أن تتغير على مدى الزمن، وبمساعدة رجال الدين التقدميين يمكن للشعوب أن تتبنى الحداثة دون التخلي عن الهوية الإسلامية، فعلى مدى القرن العشرين قدم المفكرون البوسنيون تفسيرات دينية للإسلام تتماشى مع الحياة الأوروبية، ومع ذلك فإن إسهاماتهم غير معروفة لدى الكثير في غرب أوروبا، وفي وقت تجتاح فيه الدعاية الشعبوية المعادية للإسلام الدول الغربية فإنه من الضروري استعادة الأدلة التي تشير إلى التوافق بين الإسلام وأوروبا الحديثة".
وتشير أكيول بأن "معظم البوسنيين دخلوا الإسلام بعد أن جاء به العثمانيون إلى المنطقة في القرن الخامس عشر، وحكموا حتى عام 1878 عندما خسروا البوسنة للإمبراطورية المجرية – النمساوية، وشعر كثير من البشناق حينها بعدم الارتياح تحت الحكم الجديد، خاصة أن الفقه الإسلامي التقليدي يحرم العيش في الأرض التي يحكمها غير المسلمين، وما بين 1878 إلى 1918 هاجر حوالي 150 ألفا منهم إلى تركيا".
وتستدرك الباحثة بأن "أصوات مفكرين مسلمين بارزين انطلقت بحجج ساعدت على وقف موجات هجرة البشناق، ومن بينهم كان مفتي البوسنة محمد توفيق أزاباجيك، الذي حاجج خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر بأنه يمكن للمسلم العيش تحت حكم دولة غير مسلمة متسامحة، (حيث لا يتم الاعتداء عليه ولا يهان عندما يلتزم بتعاليم دينه)، وبناء على ذلك قبل البشناق العيش تحت الحكم المجري النمساوي في دولة علمانية".
وتلفت أكيول إلى أنه في عام 1882، تم إنشاء "المجتمع المسلم في البوسنة والهرسك" بشكل رسمي، وبقيت هيكلية المنظمة تتطور تجاوبا مع الظروف التاريخية، وأصبحت بشكل تدريجي مؤسسة تعمل بدرجة من الاستقلالية عن الدولة، حيث سعت لإدارة الشؤون الدينية والتعليم، وفي المحصلة كان لديها زعيم منتخب وأجهزتها الدينية والتشريعية، وكانت تمول نفسها بنفسها، وكان كثير من مالية المؤسسة من رسوم العضوية والصدقات، وكانت مسؤولة عن الحفاظ على المساجد، وتعيين الأئمة، وإصدار الفتاوى، وإدارة الدراسات الدينية في مختلف المدارس، و"حتى هذا اليوم لا تزال هذه المؤسسة قائمة وفعالة".
وتفيد الكاتبة أن "قضية أخرى كانت مهمة في وقتها وهي تجنيد الشباب البشناق في جيوش غير مسلمة، فهل يمكن للمسلمين الخدمة في جيش يقوده المسيحيون؟ وخف التوتر عندما أصدر المفتي مصطفى حلمي هادزيوميروفيك، مفتي سراييفو حينها، فتوى عام 1881 دعا فيها البشناق لقبول التجنيد، وأصدر فتوى أخرى، قال فيها إن تعيين القضاة من الحاكم غير المسلم أيضا جائز، وهو ما قاد إلى قبول القيادة الدينية في البوسنة بتحديث المحاكم الشرعية، ثم دمجها بعد ذلك في النظام القضائي للدولة، وهذا كان بناء على تنازل متبادل، حيث كان حكام هابزبورغ (العائلة الملكية النمساوية) مرنين، بحيث سمحوا للمحاكم الشرعية بأن تعمل داخل المحاكم المدنية، (وتم إلغاء المحاكم الشرعية عام 1945 مع وصول يوغوسلافيا الشيوعية)".
وتنوه أكيول إلى أن "البشناق ناقشوا أيضا قضايا المرأة، بما في ذلك النقاب، وتعود أهم تلك النقاشات إلى عام 1928، وبدأت عندما قال مفتي المجتمع البشناقي محمد جمال الدين جاوشيج، وهو مصلح ديني، إن النقاب كان نتيجة عادات تاريخية وليس بناء على تعاليم دينية، وهذا يعني أنه يمكن إزالة النقاب دون أن تكون في ذلك مخالفة للدين، وكانت رد فعل المحافظين، الذين كانوا يعدون النقاب واجبا دينيا، حادا، لكن جاوشيج حصل في المحصلة على تأييد ملحوظ من المفكرين والمتعلمين، وأصبح بعضهم بعد ذلك قيادات للحركة التقديمة".
وتذكر الباحثة أنه "بعد الحرب العالمية الثانية تم (تحرير) المرأة المسلمة في يوغوسلافيا الشيوعية من خلال قوانين استبدادية، ونظر إلى الحجاب على أنه تخلف ويعيق مشاركة المرأة في إعادة بناء البلد التي تم تشكيلها، ونظمت جبهة النساء المناهضات للفاشية، وهي منظمة مدعومة من الدولة، حملات لنزع نقاب النساء المسلمات في يوغسلافيا من عام 1947 إلى عام 1950، وتم ذلك في حفلات عامة، حيث تصعد النساء بأعداد كبيرة على مسارح، ويقمن بنزع الزار، وهو شبيه بالبرقع".
وتبين أكيول أن "هذه الحملة توجت بمنع النقاب عام 1950، وتم عرض القانون على الشعب بأنه استجابة لمطالب جماهير النساء المسلمات، ومع أن بعض النساء رحبن بمنع النقاب، إلا أن الأمر انتهى بكثير من النساء الى العزلة نتيجة لهذا القانون: حيث شعرن أن عليهن البقاء بالبيت؛ لأنه ليس بإمكانهن الخروج للشارع دون نقاب، وهو ما تثبته شهادات مكتوبة ومسجلة على فيديو".
وتشير الكاتبة إلى أن أكبر مؤسسة رسمية إسلامية أيدت حملة نزع النقاب لخشيتها على وضع المرأة المسلمة في وقتها، وقامت بنشر عدد من التصريحات عام 1947، قالت فيها إن تغطية الوجه واليدين حتى الرسغين ليست أمرا مطلوبا دينيا، وقال المفتي ابراهيم فيجيك إن الإسلام يطلب من المرأة أن تلبس لباسا محتشما لكن ذلك لا يقتضي لبس النقاب ولا الانعزال عن المجتمع، وأضاف: "إنه حرام على المسلم أن يحلل ما حرمه الدين، كما أنه حرام عليه أن يحرم ما أحله الدين".
وتقول أكيول إن "هناك دروسا عديدة اليوم في الطريقة التي مارس فيها البوسنيون دينهم لأولئك الذين يبحثون عن تنمية الإسلام الليبرالي في أوروبا، وأحد هذه الدروس هو نجاح صيغة مركزية مؤسسية للإسلام، كما شاهدنا في مؤسسة المجتمع الاسلامي البوسنية، وقد لا يكون بالإمكان تطبيق هذا النموذج بالضبط في الدول الأوروبية الأخرى -فما كان يميز منظمة الشؤون الإسلامية البوسنية هو أنها كانت مستقلة عن الدولة وفيها عناصر ديمقراطية للأجهزة التمثيلية والتشريعية- لكن يمكن استخدامها بصفتها مثالا لبقية أوروبا".
وتجد الباحثة أن "المجتمع الإسلامي يشير إلى (احتياجات العصر)، بحسب ما قاله كبير علماء المسلمين في البوسنة بصفتها أحد المبادئ التي يعتمد عليها في تطبيق التعاليم الدينية: فعلى الفكر الإسلامي أن يوفر للمسلمين الأجوبة حول ممارسة الإسلام بحسب الزمن والمكان، والنتيجة هي أن (المؤسسات تعطى عنصرا من المرونة مع الحفاظ على صلاحية الإسلام لكل زمان)، والمؤسسة ذاتها تؤكد اليوم مصداقيتها، وتعرض (خدمتها كونها شريكا بناء للمجتمعات الإسلامية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي)".
وتلفت أكيول إلى أن "الأمر الثاني هو أن العلمنة -بما في ذلك منع النقاب- قد تأتي بنتائج عكسية، كما أظهرت شهادات النساء المسلمات من يوغوسلافيا، بما في ذلك شتم ومهاجمة النساء المنقبات، أما تساؤل المسلمين أنفسهم عن التعاليم الدينية المتعلقة بالنقاب فقد تؤدي إلى تفسيرات أكثر تقدمية، ويشعر المسلمون بالارتياح لها لأنها نابعة من داخل المجتمع، فمثلا، احتجت القيادة الاصلاحية بأن هناك حقوقا وواجبات لكل من الرجال والنساء في الإسلام، وأن إزالة النقاب لا تتعارض مع الإسلام، وتسهل على المرأة الحصول على حقوقها".
وتختم الكاتبة مقالها بالقول إنه "بدلا من فرض منع على النقاب، أو فرض قواعد على اللباس، فإنه من الأفضل للديمقراطيات الغربية أن تدعم حرية الخيار للمرأة".
لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)