هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من الشائع والمعروف أن ترسم الدول سياساتها وفق ما يقتضيه أمنها القومي. وقد نرى في الكثير من الدول وجود مؤسسات ووكالات تحت مسمى الأمن القومي، مهمتها تحديد الأخطار التي تهدد أمنها، مستخدمةً كافة القوى السياسية والاقتصادية والدبلوماسية، وبشكل أساسي القوة العسكرية والاستخباراتية، لعزل هذه الأخطار والتقليل من مدى خطورتها على أمن النظام السياسي والاجتماعي للدولة. في المقابل، تلجأ الكثير من الدول الصغيرة التي لا تمتلك المقومات الكافية للحفاظ على أمنها القومي إلى دول عظمى تحميها، ضمن اتفاقيات تجري بينها تؤمّن مصالح الطرفين إلى حدٍّ ما. وعادةً ما تنهج هذه الدول الصغيرة في رسم سياساتها الخارجية نهجاً حيادياً يجنبها الدخول في صراعات دولية أو إقليمية، والوقوف على مسافة واحدة من جميع الدول، مركزةً جلّ اهتمامها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وغير مهتمة في الحصول على دور في المشهد السياسي الدولي والإقليمي الذي من الممكن أن يزيد الأخطار على أمنها القومي، وهذا يعني بالضرورة زيادة في فاتورة الدول العظمى الحامية لها.
ولعل الإمارات العربية المتحدة في عهد الشيخ زايد كانت خير مثال لهذه الدول. فقد رسم الشيخ زايد سياسة خارجية هادئة، حتى أصبح دور الإمارات في الأزمات الدولية والإقليمية مثل دور أي منظمة إنسانية، مقتصراً على تقديم المساعدات الإنسانية، حتى استحق الشيخ زايد لقب "زايد الخير" لما كان للرجل من أياد بيضاء ساعدت الكثير من المستضعفين في الصراعات العسكرية، وحتى الكوارث الطبيعية، على تجاوز أزماتهم.
لكن هذا النهج الهادئ والإنساني في التعامل مع الملفات الخارجية سرعان ما تلاشى مع وفاته، فقد أراد حكام الإمارات الجدد دوراً أكبر في المشهد السياسي الدولي والإقليمي، ربما دورا يفوق حجم الإمارات بكثير. وللعب هذا الدور بدأت حكام الإمارات برسم سياسة خارجية جديدة.
الحلفاء والأعداء
لرسم سياسية خارجية جديدة عليك أولاً تحديد قائمة الحلفاء والأعداء؛ حلفاء يساعدون على دعم سياستك، وأعداء يعتبرون عثرة في تنفيذها. وقائمة الحلفاء لم تختلف كثيراً عما سلف لهذه الدولة التي أصبحت شغوفة بالرياسة الإقليمية، فلطالما كانت الولايات المتحدة الأمريكية الحليف الاستراتيجي والتاريخي لدول الخليج كافة، ولا سيما الإمارات التي أرادت تغيير شكل هذا التحالف من تحالف "عقد الرعاية" الأمريكية لحماية الإمارات مقابل الولاء لها، مع عض العقود النفطيّة، إلى تحالف أكثر متانة يسمح لها بلعب دور إقليمي هنا وهناك, ولإنجاز هذا التحالف غير التقليدي، بدأت الإمارات في الاستثمار في المال السياسي الأمريكي، وهذا ما كشفته تسريبات البريد الإلكتروني لسفيرها في واشنطن، يوسف العتيبة، الذي ما انفك ينفق أموالا طائلة في اللوبيات وجماعات الضغط الأمريكية ومؤسسات العلاقات العامة، ليروج لفكرة أن الإمارات هي الدولة التي ستغير شكل الخليج العربي؛ من راعٍ للتطرف والتشدد الإسلامي إلى خليج أكثر ليبيرالية وانفتاحا، وأنهم شركاء حقيقيون في محاربة "الإرهاب الإسلامي" المعادي للغرب، وأنهم يسعون لإسلام متصالح مع الجميع بعيداً عن الفكر الجهادي المتزمت.
وانطلاقاً من هذا التوجه الجديد، جاءت قائمة الأعداء متمثلةً بجماعة الإخوان المسلمين التي رأت الإمارات فيهم أساساً لكل فكر متطرف، فبدأت باعتقال المنتمين لها وحظر نشاطها على أراضيها والتضييق على كوادرها واعتقال بعضهم، متهمةً إياهم بالسعي لقلب نظام الحكم فيها. وبقي هذا الأمر شأن إماراتيا داخليا لم يؤثر على سياستها الإقليمية، فلم تكن حكومة الإمارات الحكومة الأولى دخلت في صدام مع الجماعة. فمعظم حكومات الدول العربية تصادمت مع الإخوان، مع اختلاف حدة هذا الصدام من تضييق إلى حظر إلى الدخول في صراع مسلح معهم، كما حدث في ثمانينيات القرن الماضي في سوريا بين حكومة الأسد والإخوان، إلا أن دموية هذا الصراع لم يمنع حكومة الأسد من احتضان حركة حماس (إخوانيّة الفكر)، فبقي صراع الأسد مع الإخوان مقتصراً على التنظيم السوري ضمن حدود البلاد، بخلاف الإمارات التي أخذت على عهدتها محاربة الإخوان المسلمين في أي مكان وزمان. ويظهر هذا جلياً مع بداية موجات الربيع العربي التي ضربت قلاع الحكم العربي المستبدة، والذي أصاب حكام الإمارات بـ"عمى الإخوان"، فرأوا في هذا الربيع خريفاً إخوانياً جملةً وتفصيلاً، متغافلين عن عدالة مطالب شباب الربيع العربي. وعوضاً عن الوقف مع تطلعات الشباب العربي التي تتفق إلى حد ما مع سياستهم الليبرالية المزعومة، سارعوا لتقديم الدعم لأنظمة الاستبداد، ضاربين بعرض الحائط إرث الشيخ زايد الإنساني الذي طالما عمل من أجل تقديم العون لضحايا الأزمات، لا لمسببيها، وكاشفين زيف ادعاءهم بأنهم حملة لواء الليبرالية في المنطقة.
فمع أول اختبار حقيقي "سقط القناع عن القناع"، وتبين أن هذه الليبرالية ما هي إلا زيف إعلامي ترويجي لهم، يخفون وراءه أهواء استبدادية تدير حروبا دونكوشوتية مع طواحين الإخوان المسلمين، حتى وصل الأمر بهم إلى التعاون العلني والمباشر مع نظام الأسد الذي هجّر وقتل ملايين من الشعب السوري؛ تعاونٌ بررته الإمارات بحجة إعادة النظام السوري إلى الحاضنة العربية لمواجهة تعاظم الدور التركي (المصنف إخوانياً في عرف الإمارات) في سوريا، والخوف من ملء تركيا للفراغ الذي سيسببه انسحاب القوات الأمريكية المزعوم من شمال سوريا.
ولكن السؤال الذي يطرح هنا: أليس الأولى للإمارات إرجاع الشعب السوري إلى الحضن العربي بعد أن شتته الأسد على امتداد العالم؟ أو العمل على إرجاع المعتقلين في أقبية حليفهم إلى أحضان الحياة، وإنقاذهم من الجحيم؟
وهل كان الأجدر بالإمارات إرجاع ثقة المعارضة بالموقف العربي ذي التصريحات الرنانة والمواقف الجوفاء، بدلاً من إرجاع ثقة الأسد بسياسته الوحشية الذي يعتبر التوجه العربي الذي تقوده الإمارات تشجيعاً له على الاستمرار بها؟