هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في مطلع التسعينيات، بدأت قطر برسم استراتيجيات جديدة لسياساتها الداخلية والخارجية، كان من بينها امتلاك قوة التأثير بدلاً من قوة السلاح.
لا أدري بالضبط متى بدأ التفكير بذلك، لكن الذي أستطيع أن أذكره أنَّ قناة الجزيرة انطلقت في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1996، وقبيل الانطلاق بدأ الإداريون في القناة باستقطاب الإعلاميين المحترفين.
فكان جمال ريان الفلسطيني أول من ظهر على قناة الجزيرة ليصدح بالنشرة الإخبارية الأولى في تاريخها، وكان محمد كريشان التونسي، وخديجة بن قنة الجزائرية، وليلى الشايب التونسية، وأحمد منصور المصري، وغادة عويس اللبنانية، وفيصل القاسم السوري، وغيرهم الكثير ممن كانوا يعملون في منابر إعلامية عالمية مثل بي بي سي، ومونت كارلو، وإذاعة سويسرا العالمية، ويمتلكون من القدرات الفكرية واللغوية والإعلامية الشيء الكثير، فضلاً عن التنوع العربي كما رأيت من جنسياتهم المتعددة، لذلك كانت العروض المقدمة لهؤلاء الإعلاميين يشي بالاحترافية المطلوبة لأن يقدموها للمشاهد العربي.
فالهدف لدى قطر كان واضحاً وهو امتلاك قناة إعلامية تُؤثر في وجدان المواطن العربي بشكل احترافي، بدءاً من الكادر البشري، ومررواً بالمحتوى الإعلامي، وانتهاءً بالأدوات الإعلامية، مهما كلف الثمن، وهذا يدل على جدية العمل وحسن التخطيط.
وقد صاحب ظهور قناة الجزيرة المحترفة، احتضان الشيخ العلامة الدكتور "يوسف القرضاوي"، صاحب الفكر الوسطي، والإبداع المعرفي، والفهم العميق.
فقد ظهر على قناة الجزيرة في برنامج أسبوعي، "الشريعة والحياة"، مما شكل عامل جذب لجميع علماء الأمة ومفكريها المعتدلين، فتجمعوا في مؤتمراتٍ عدة، ومناسبات مختلفة، ثم عزموا على تشكيل اتحاد العام لعلماء المسلمين، وفعلاً كانت قطر هي الحضن الداعم للإنتاج الفكري للنخب الإسلامية، الذين جاؤوا من بلاد المشرق العربي، والمغرب العربي، وجميع أقطار العالم الإسلامي.
ليشكلوا جسماً رائعاً في التفكير والاجتهاد. ومن هنا، ضمت قطر عامل آخر ورئيس من عوامل التأثير، وهو الدين الإسلامي وخطابه المعتدل.
فالعرب بطبيعتهم الفطرية، وتاريخهم العريق، يتوقوا شوقاً لفهم دينهم الحنيف، والاعتزاز به في كل المحافل، لذلك كان لا بد من حفظه من عقول المتنطعين، واستهتار العابثين.
ومن جانب آخر، فقد عملت قناة الجزيرة على تسليط الضوء على القضية الفلسطينية، وتطوراتها المختلفة؛ فهي أعدل قضية وأطهرها، واهتمام المجتمع الدولي وارتكازه، ولأنَّ العرب والمسلمين ينظرون إلى فلسطين نظرة عقيدة وتحرر. فقد لقيت الجزيرة قبولاً كبيراً لهذا الاهتمام، وزاد من شهرتها في الأوساط المختلفة.
من هنا، ساهمت الجزيرة في صياغة العقل العربي نحو الحرية والديمقراطية، من خلال التدافع مع جرائم المحتل الصهيوني وغطرسته تجاه الإنسان العربي، والأرض الفلسطينية.
وفي الحقيقة، لم تكتف قطر بإظهار الصورة الحقيقية لما يدور في الشرق الأوسط والأراضى الفلسطينية المحتلة، بل عملت على دعم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بالمال والسياسات العامة في مطلع السبعينيات، وتقف اليوم مع أهالي قطاع غزة ضد الحصار الصهيوني.
وفي عام 2006، وبعد اتهام الكيان الإسرائيلي لعضو الكنيست العربي عزمي بشارة بدعم مقاومة الاحتلال الصهيوني، ومساعدته لحزب الله اللبناني في حرب تموز/ يوليو 2006، عملت قطر على احتضانه، وسخّرت له الكثير من الإمكانيات كي يعمل على تفعيل أدوات التأثير والبناء الاستراتيجي، والتي برز منها مركز أبحاث العربي الذي لديه العديد من الفروع في الدول العربية، ويعمل على استكتاب أبرز النخب في الدول العربية والإسلامية تجاه أحدث القضايا السياسية والإسلامية والإعلامية والاقتصادية في المنطقة العربية، وكان معهد الدوحة للدراسات العليا، كما كان التلفزيون العربي عنواناً للاحترافية الإعلامية، وللفكرة القومية العربية التي يتبناها الدكتور عزمي بشارة.
وإذا لفتنا وجهتنا إلى عالم الرياضة، أكثر الأدوات تأثيراً في العالم، نظراً لعشق الشباب لممارستها، ومشاهدة روح التنافس فيها، سنجد أنَّ قطر استثمرت أموالها بطريقة احترافية في هذا الجانب. فقد استقدمت أقوى المدربين الرياضيين، وبنت أكبر الملاعب، واستقدمت أمهر المعلقين الرياضيين، وتملكت أعرق النوادي الأجنبية، وأشرفت على العديد من البطولات الدولية، وافتتحت أعظم القنوات الإعلامية والمعروفة بمجموعة قنوات "بي إن سبورت".
وقد رأينا أثر ذلك في الانجذاب العربي نحو الرياضة، وفوز المنتخب القطري في كأس آسيا لعام 2019، والآن تستعد قطر لاستقبال كأس العالم لكرة القدم لعام 2022، والذي يعد محطة فارقة في تاريخ قطر وتأثيرها العربي والدولي.
كما استطاعت قطر الذهاب بعيداً في التحالفات العسكرية والأمنية والاقتصادية مع جهات مختلفة، مثل الولايات المتحدة وروسيا وتركيا والناتو، وانفتحت بمليارات الدولارات مع جهات دولية وإقليمية، مثل الصين وإيران، وغيرهم.
أعتقد أنَّ الأمير تميم بن حمد ومن قبله والده؛ يدركان تماماً الاستراتيجية الناعمة ومدى تأثيرها الكبير في بناء جيل الديمقراطية القادم، لذلك استثمرا الإمكانيات المتعددة في الطاقات العربية بشكل خاص، والطاقات المتنوعة بشكل عام، وذلك من خلال استراتيجة التأثير، والبعد عن المساحات المحرمة دولياً مثل السلاح وتطوراته، وهذا يشبه إلى حدٍ كبير سياسة اليابان في عملها.
وأعتقد أنَّ هذه الاستراتيجية تنسجم تماماً مع تحولات العالم الذي لم يعد يعتمد على القوة العسكرية في التغيير، وإنما على فواعل أخرى أهمها قوة التأثير ومساحته.
بقي أن نعرف أنَّ قطر اليوم تُعد في المرتبة الرابعة على مستوى العالم في جودة التعليم، والأولى على مستوى الوطن العربي.