تشير المعلومات إلى أنّ حركة حماس بذلت جهودا ضخمة، مالية واستخباراتية، لتتبع مصير عناصرها الأربعة الذين اختفوا في سيناء، قبل ثلاث سنوت ونصف، أثناء ترحيل الداخلية المصرية لهم مع مواطنين آخرين من معبر رفح إلى مطار القاهرة الدولي. وفي حين أنكر النظام المصري علمه بمصيرهم، ونفى مسؤوليته عن اختفائهم، محاولا القول إنّ جماعة "متطرفة" هي التي اختطفتهم، فإنّ حركة حماس ظلّت مصرّة على تحميله المسؤولية، ولا سيما وأن الكيفية التي اتُّبعت في اختطافهم لم تدع مجالا للشك في وقوف جهة مصرية رسمية خلف ذلك.
قُطع الشك باليقين، وهذا أهم ما في الموضوع الآن. صحيح، ما يزال يقبع في الخفاء الكثير مما يتساءل عنه الناس؛ عن سبب استهداف هؤلاء الأربعة، وعمّا جرّى لهم ومعهم، وكيف تطوّرت مفاوضات حماس مع المصريين بشأنهم طوال السنوات الثلاث والنصف الماضية، وكيف انتهى ذلك كلّه إلى الإفراج عنهم، وهل من أثمان جوهريّة دفعتها حماس في هذا السبيل، إلا أنّ هذه الأمور كلّها معروفة لدى حماس، وسيتكفل الزمن بالكشف عنها. وأمّا الأثمان التي دفعتها حماس، فعلى الأرجح، إن كان من ثمن، فهو لا يمسّ ثوابت الحركة من القضية الفلسطينية، وقد يتصل بمجريات تسير فيها الحركة أصلا، كالتهدئة مع الاحتلال، أو صفقة الأسرى، أو سوى ذلك، ممّا هو دون الثوابت الكبرى.
يُحسب لحماس أنّها لم تُجامل النظام المصري بشأن عناصرها الأربعة، وهي جُزء من الفلسطينيين المستضعفين في الإقليم العربي، والمحاصرة على وجه الخصوص
وإذا كان يُحسب لحماس أنّها لم تُجامل النظام المصري بشأن عناصرها الأربعة، وهي جُزء من الفلسطينيين المستضعفين في الإقليم العربي، والمحاصرة على وجه الخصوص، بما يجعل سياساتها تجاه الإقليم العربي بالغة الحساسية في ظروفها الحرجة التي تمرّ بها.. فإنّ إقرار النظام المصري باختطافهم ثم الإفراج عنهم، فيه الدلالة الكافية، لا على الأدوار الرخيصة التي مارسها ضدّ الفلسطينيين، ومقاومتهم على وجه الخصوص، فحسب، بل وعلى طبيعته المافيوية، في حين دأب تاريخيّا، على محاولة اصطناع صورة محترمة لنفسه، مفادها أنّه نظام يحترم الالتزامات المترتبة على الدول. وكان إعلامه ومثقفوه والناطقون باسمه في غاية الحرص على التزام هذا التصوير لسياسات النظام، وبهذا التصوير كان يغطّي على حصاره لغزّة، أو اضطهاده للفلسطينيين.. "مصر دولة كبيرة وتحترم التزاماتها"!
فلنُعِد إخراج عملية الاختطاف.. النظام قال حين الاختطاف، إنّ جماعة متطرفة تنشط في سيناء هي التي اختطفتهم، وأنكر أدنى معرفة له بالحادثة. وقد أقرّ الآن باختطافهم وأفرج عنهم، وهذا الإقرار لا معنى له، من جهة التماس حقيقة النظام، سوى أنّه نسخة أخرى من الجماعات الموسومة بالتطرف والإرهاب، إذ إنّه استخدم الأسلوب الذي يقول إنّ تلك الجماعات تستخدمه، وأخفى المختطفين ثلاث سنوات ونصف، بما يخالف ما يفترض أنّه التزام الدول وحكوماتها المحترمة، وأوقع عليهم من أصناف العذاب ما تكشفه
التغيرات العميقة في هيئاتهم، وقد كان محتملا أن
يطويهم الاختفاء القسري بعد ذلك أبدا.
إقرار النظام المصري باختطافهم ثم الإفراج عنهم، فيه الدلالة الكافية، لا على الأدوار الرخيصة التي مارسها ضدّ الفلسطينيين، ومقاومتهم على وجه الخصوص، فحسب، بل وعلى طبيعته المافيوية
ما الذي يميّز هذا النظام عن تلك الجماعات؛ سوى أنّه نظام يتمتع بالشرعية الإقليمية والدولية، ويستخدم كل ممكنات الدولة الضخمة، لتنفيذ ما تقوم به تلك الجماعات بأدواتها البدائية وفي نطاقاتها المحدودة، بينما هو أعظم أدوات وأوسع نطاقا، حتى لو قلنا باختلاف أهدافه عنها، ولو لم نأخذ في الحسبان أن كثيرا مما ينسب لتلك الجماعات هو من تدبير النظام بشكل أو بآخر؟!
بكل تأكيد، لم تقتل "الجماعات المتطرفة" في مصر عدد الذين قتلهم النظام المصري في رابعة وحدها، ولم تخف قسريّا عدد الذين يخفيهم النظام الآن، كما أنّها لا تملك سجونا تضمّ عشرات آلاف السجناء والمعتقلين، وهي، والحال هذه، جماعات مُخرجة عن القانون، وتلاحق باسم القانون، في حين يقوم سادن القانون بكل ما يخالف القانون وباسم القانون؛ بتوظيفه للمؤسستين الأمنية والقضائية، كما هو الحال، مثلا، في إعدام العديدين في ظروف تخلو من التزام المعايير القانونية المحترمة، وتخضع لتسلط النظام السياسي والانتقام الأمني.
قبل الإفراج عن المختطفين الفلسطينيين الأربعة، أعدم النظام المصري عددا من الشبّان المصريين المتهمين باغتيال النائب العام السابق هشام بركات، ثم حصلت حادثة القطار المروّعة، وأعاد النشطاء بعدها بثّ كلمة لرأس النظام، عبد الفتاح السيسي، يرفض فيها تجديد سكة الحديد وإصلاحها، ويفضّل بدلا من ذلك إيداع الأموال في البنوك لجلب الفوائد، في حين ينفق عشرات المليارات على بناء القصور والسجون وإنشاء عاصمة إدارية جديدة تتحصن بها مؤسسات النظام!
بقية أخرى، ليست جزءا عضويّا من النظام، ما زالت تتوهّم أن الدولة تحتكم في العموم إلى معايير محترمة، وفي حال أقرّت هذه البقية بسوء أو شرّ في النظام، فإنّ خصومه -عندهم- أكثر سوءا وأعظم شرّا
وإذا كانت نخبة النظام، الإعلامية والثقافية، كما هو حال نخبة أنظمة الثورة المضادّة عموما في هذه الفترة الزمنية، قد انحطت انحطاطا مروّعا غير مسبوق، وبالتالي فإنّ الدلائل القاطعة على مافيوية هذا النظام وعصابيته غير مؤثّرة فيهم، وهم جزء من ماكينة التطرف "النظامي" والإجرام "الدولاتي"، فإنّ بقية أخرى، ليست جزءا عضويّا من النظام، ما زالت تتوهّم أن الدولة تحتكم في العموم إلى معايير محترمة، وفي حال أقرّت هذه البقية بسوء أو شرّ في النظام، فإنّ خصومه -عندهم- أكثر سوءا وأعظم شرّا، مع أن هؤلاء الخصوم ليس فيهم من اقترف نزرا يسيرا من جرائم النظام، وليس فيهم من يتمتع بشيء من قدراته!
لقد كان مؤلما أن نرى من لا يرتبط بهذا النظام، أو بالأنظمة عموما، ارتباطا عضويّا أو منفعيّا مباشرا، ثم هو يتبرع للدفاع عن عمليات الإعدام، أو تبرئة النظام من المسؤولية عن الكوارث الناجمة عن اهتراء البنية التحتية.. في حين ها هو هذا النظام يقرّ على نفسه بأنّه من حيث الجوهر لا فرق بينه وبين الجماعات التي يسمها بالتطرف!