ملفات

أي تأثير لثورة 1919 في مصر على الحركة الوطنية المغربية؟

باحثون مغاربة: تأثير خطاب الإصلاح في المشرق العربي على النخب المغربية كان فاعلا  (إنترنت)
باحثون مغاربة: تأثير خطاب الإصلاح في المشرق العربي على النخب المغربية كان فاعلا (إنترنت)

ثمة عدد من الإكراهات التي تجعل من عملية البحث في تأثير ثورة سعد زغلول في مصر عام 1919 على الحركة الإصلاحية المغربية أمرا مشوبا بكثير من الصعوبة والحذر أيضا، ذلك أن المرحلة التاريخية التي اندلعت فيها الثورة، كانت محكومة بتوتر كبير بين الاستعمارين الفرنسي والإسباني وبين الإصلاحيين المغاربة، سواء في مناطق النفوذ الفرنسي أو في مناطق النفوذ الإسباني، كما أنه تم ضرب حصار قوي على الصحافة، سواء منها المحلية أو التي ترد إلى المغرب من الخارج عبر طنجة المنطقة الدولية، كما أن  تحركات زعماء الإصلاح خارج الوطن كانت مقيدة بهذا الحصار نفسه إلا في نطاقات محدودة.

لكن عدم وجود وثائق أو نصوص تثبت التأثير المباشر لهذه الثورة على حركة الإصلاحيين في المغرب، لا يمنع من تسجيل جملة مؤشرات يمكن الاعتماد عليها لبناء تصور حول حدود العلاقة الممكنة بين ثورة الزعيم المصري سعد زغلول سنة 1919، وبين الحركة الإصلاحية الوطنية في المغرب.

أثر الحركة الإصلاحية في مصر في المغرب

بدءا نقرر وجود وفرة في المعطيات التي تؤكد العلاقة المباشرة بين الحركة الإصلاحية المغربية وبين الحركة الإصلاحية المصرية مجسدة في زعماء الإصلاح في مصر (الشيخ محمد عبده ورشيد رضا)، بل إن ثمة تأثرا مباشرا بمدرسة المنار، وجهودا لاستنساخ أفكارها وتجربتها، ويمكن في هذا الإطار أن نشير إلى تتلمذ عدد كبير من قادة الإصلاح على رشيد رضا في الأزهر. 

ويحكي الشيخ محمد العربي الخطيب التطواني، أن الشيخ محمد رشيد رضا حدثه عن رغبته في تأسيس جماعة الدعوة والإرشاد لتخريج الدعاة، يكون مقرها في القاهرة، وتتخذ لها شعبا في سائر الأقطار الإسلامية، فالتحق بها بعد أن أجرى اختبارا وذلك سنة 1912، فقال عنه رشيد رضا: "هذا أول طالب في شمال إفريقيا يلتحق بالدار".


على أن أكبر مؤشر يمكن الاستناد إليه في هذا الباب هو رحلة الشيخ أبي شعيب الدكالي زعيم الإصلاحيين المغاربة إلى مصر للدراسة في الأزهر، وتتلمذ على الشيخ محمد عبده، وذكر تلميذه الشيخ محمد السائح، كما جاء في كتاب لشيخ المبدع محمد بن عبد السلام السائح للعلامة عبد الله الجراري: "وفي أيام المولى عبد الحفيظ، وفد عليه الشيخ أبو شعيب الدكالي من المشرق يتوقد نشاطا وحدة، وقد كان تأثر بمدرسة الشيخ محمد عبده إلى حد كبير، فقام بنشر مبادئ الإصلاح غير هياب، ولا وجل، واتصل بالسلطان، وبرز النضال، وثبت في الميدان حتى استقرت مبادئه واستحكمت أركانها" ص94.

كما سجل محمد الباقر الكتاني في "ترجمة الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني الشهيد"، في رحلته إلى مصر عام 1321 للهجرة، أنه أقام في القاهرة ما يقرب من شهر، زار فيها العلماء العاملين واجتمع برجال العلم والسياسة وتبادل معهم الرأي والأفكار حول مستقبل الإسلام والأخطار التي تتهدد شريعة سيد الأنام" ص 95.

والحقيقة أنه يصعب تتبع عدد المشايخ الذين درسوا في مصر، سواء من جيل الإصلاحيين الأوائل من أمثال محمد الحجوي وأبي شعيب الدكالي والشيخ محمد بن العربي العلوي أو من جيل الإصلاحيين الوطنيين، من أمثال علال الفاسي والمكي الناصري وعبد الله كنون صاحب النبوغ المغربي، محمد بلحسين الوزاني وغيرهم.

 

مؤشرات إصلاحية


وفي بحثه عن التأثير الإصلاحي المشرقي في المغرب توقف محمد المنوني رحمه الله على ثلاث مؤشرات:

المؤشر الأول: وهو البعثات العلمية؛ وقد سجل العلامة محمد المنوني في كتابه "مظاهر يقظة المغرب الحديث" بهذا الخصوص تواتر لبعثات العلمية إلى مصر أيام محمد الرابع وأيضا أيام الحسن الأول وإن بشكل أقل (ص 156).

المؤشر الثاني: وهو رحلات رموز الإصلاح المشارقة أو بعض الكتاب والصحفيين إلى المغرب؛ وقد مثل لذلك، بإقامة محمد خير الدين التونسي في مراكش لمدة سنتين، واتصاله بالشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني، وقد كان خير الدين يمثل جمعية الاتحاد والترقي أو حركة تونس الفتاة.
 
المؤشر الثالث: الكتب والصحف العربية الوافدة على المغرب؛ وفي هذا السياق يمكن أن نورد شهادة عبد الله كنون الذي تحدث في كتابه "أحاديث عن الأدب المغربي الحديث" عن الأثر الذي  أحدثته كتب النهضويين المصريين التي وصلت إلى المغرب، وذكر منها آثار الشيخ محمد عبده ورشيد رضا وشيخهما جمال الدين الأفغاني، وذكر من أعلام الفكر والسياسة مصطفى كامل وسعد زغلول" ص 40.

ويستعرض محمد بن الحسن الوزاني في مذكراته عددا من الكتب المشرقية التي كان لها أثر كبير في صياغة الروح النهضوية والإصلاحية في المغرب، ويذكر منها كتب الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وعلي عبد الرازق وقاسم أمين وغيرهم. 

ولم يقتصر الأمر على الكتب، بل كان للصحف المشرقية، ومنها المصرية واللبنانية على وجه الخصوص، أثر كبير على الحركة الإصلاحية في المغرب، وقد أقر عبد الكريم غلاب في كتابه التأريخي للحركة الوطنية "تاريخ الحركة الوطنية بالمغرب" بالأثر الكبير الذي كانت تقوم به المجلات العربية الإسلامية التي كانت تفد من مصر وفلسطين وسوريا والجزائر في تدعيم الحركة السلفية في المغرب.

في البحث عن ملامح تأثير ثورة سعد زغلول في الحركة الإصلاحية المغربية

ليس من السهل على مؤرخ في وزن الدكتور عبد الله العروي أن يثبت التأثير المباشر لأفكار حركة تركيا الفتاة على الحركة الإصلاحية المغاربية في تونس والجزائر، فاعتبر في كتابه "تاريخ المغرب محاولة في التركيب" أن حركتي تونس الفتاة" و"الجزائر الفتاة" كانتا تقتديان موضوعيا وذاتيا بهذه الحركة، بل إنه ذهب حد القول بأن التأثير الذي مارسته على الحركة الإصلاحية المغربية تجاوز درجة "الاقتداء"، وكان مباشرا، ومثل لذلك، بالحركة ذات المنزع الدستوري الذي تأسست في طنجة وفي فاس سنة 1912 في الأوساط التجارية التي كانت لها علاقات ثابتة بإنجلترا، وفي الصحافة التي تؤثر فيها العناصر المصرية والسورية.

واعتبر العروي أن الحراك السياسي الذي قام لعزل الملك عبد العزيز وتولية الملك عبد الحفيظ كان موجها بروح هذه الحركة الدستورية المتأثرة بالفكرة الإصلاحية المشرقية. لكن مع إثبات العروي لهذا التأثير المباشر، فإنه تأسف على جهل الكثير من الأشياء عن هذه الحركة وعن صلاتها بالحركة الإصلاحية المعاصرة التي كان موئلها جامع القرويين.

 

الانتقال الذي عرفته الحركة السلفية المغربية من حركة إصلاحية دينية إلى سلفية جديدة ثم حركة وطنية شابه مسار حركة سعد زغلول في مصر


والحقيقة أن تفسير العروي، وإن كان مشوبا بنوع من الحذر وربما التردد بسبب عدم توفر معطيات مهمة في هذا الاتجاه، فيرجع السبب في ذلك إلى أن الرجل كان يبحث تأصيل فكرة امتداد مشروع "حزب تركيا الفتاة" في المغرب العربي، في تونس والجزائر والمغرب، ولذلك لم تسعفه طبيعة المشروع الإصلاحي الذي عبرت عنه الحركة الوطنية عن تقرير فكرة الامتداد والدخول بذلك في مغامرة غير محسوبة العواقب.

لكن الجهد في دراسة ملامح تأثر الحركة الإصلاحية المغربية بثورة سعد زغلول لا يلاقي نفس المأزق، وذلك لعدة اعتبارات:

ـ أولها، أن المعطيات عن التلاقح والتأثير الثقافي بين الحركة الإصلاحية المشرقية والمغربية وفيرة، وتؤكد الاتصال المباشر مع الرموز الإصلاحية ومع فكر رموز النهضة الدينية والسياسية.

ـ ثانيها، أن عددا من مذكرات رموز الإصلاح في المغرب، وكذا تراجمهم، تؤكد الإفادة المباشرة من تراث الحركة النهضوية المصرية، والتأثر المباشر برموز الفكر والسياسة بها، إذ تم ذكر سعد زغلول باعتباره من أعلام السياسة الأكثر تأثيرا في الحركة الإصلاحية المغربية.

ـ ثالثها، أن الانتقال الذي عرفته الحركة السلفية المغربية من حركة إصلاحية دينية إلى سلفية جديدة ثم حركة وطنية، كما سجل ذلك علال الفاسي في كتابه الحركات الاستقلالية، شابه إلى حد كبير حركة سعد زغلول باشا في نضالها الوطني ضد المستعمر، ومطالبتها بالإصلاحات، وتحولها من مطلب إقامة الجامعة الإسلامية إلى مطلب تحرير مصر وإقامة نهضة بها. 

ومع أن علال الفاسي، خص الحركة السلفية المغربية وحدها بصفة الانتقال نحو السلفية الجديدة ثم الحركة الوطنية، ونفاها عن الحركات المشرقية بما في ذلك التي في بلاد الأفغاني ومحمد عبده في المدرسة الإصلاحية المصرية بين الإصلاحية الدينية وبين الإصلاحية الوطنية السياسية، بخلاف المدرسة الإصلاحية المغربية، فقد تحولت من سلفية أبي شعيب الدكالي ومحمد بن العربي العلوي إلى حركة وطنية مثلتها الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار.

 

 

الصواب أن جماعة لسان المغرب، كانت تمثل صدى الفكرة الإصلاحية المشرقية في بعدها السياسي والدستوري


ـ ثالثها، أن النزوع للروح الدستورية التي عرفها المغرب من خلال جماعة من الشباب الوطني الناهض ضد الاستعمار والذي اجتمع للكتابة في مجلة لسان المغرب التي كانت تصدر من طنجة، والتي كان عملها مختلفا عن عمل الإصلاحيين المغاربة بمختلف تشكيلاتهم تبين حدود هذا التأثير، وقد تتبع علال الفاسي في "الحركات الاستقلالية" عمل هذه الجماعة السرية، والتي كانت تتألف من المهدي بن الطالب الفاسي، والسيد سعيد الفاسي والسيد عبد الحفيظ الفاسي وأحمد المواز وأحمد الزبدي الذين كانوا يكتبون في الصحف الحرة التي كانت تصدر في طنجة (منطقة دولية)، والذين احتفظت جريدة لسان المغرب التي كانت تصدر بشكل أسبوعي، مشروع دستور مغربي يتضمن القانون الأساسي للأمة، والنظام الداخلي لمنتدى الشورى، ونظام الانتخابات العمومية وقانون الجزاء المغربي. واعتبر علال الفاسي أن هذا المشروع كان يختصر الجوانب التي كانت تشغل بال النخبة المثقفة وأنه كان يمثل النواة الصلبة الصالحة للديمقراطية المغربية.
 
على أن الاختلاف بين المؤرخين في نسبة الأفكار الدستورية إلى علماء فاس أو إلى مشارقة سوريين أو لبنانيين، لا ينفي هذا الاتصال، بل يؤكده، فسواء كتبه مغاربة من النخبة المغربية الفاسية، وتم صياغة ذلك في لسان العرب من غير ذكر اسم، أو تم صياغته بإيعاز من نخب عربية، فإن التأثير يبقى ثابتا.

وإذا كان العروي يشير بشكل مباشر إلى تأثر هذه الحركة بتركيا الفتاة، وفروعها في الجزائر وتونس، فالأقرب إلى الصواب أن جماعة لسان المغرب، كانت تمثل صدى الفكرة الإصلاحية المشرقية في بعدها السياسي والدستوري، بحكم أنها كانت على اتصال وثيق بالصحافة العربية والمصرية على الخصوص، وكانت تتابع عن كثب تطورات الوضع في الأمة العربية وفي مصر تحديدا.
 
ـ رابعها، وهو التأثير الكبير الذي أحدثته النخب المصرية المتأثرة بفكر قادة السياسة المصريين ومنهم سعد زغلول على النخب المغربية، لاسيما ما يتعلق بمطالب علماء فاس، الذين قادهم الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني لعزل السلطان مولاي عبد العزيز وتولية مولاي عبد الحفيظ، فقد عرف عن الشيخ إقامته في مصر والتقاؤه مع قادة السياسة فيها في فترة مكوثه شهرا بالقاهرة، كما يثبت اتصاله بخير الدين التونسي الذي أقام بمراكش سنتين، الصلبة التي كانت لديه مع السياسيين الذين كانوا يحملون روح وأفكار وتركيا الفتاة.

ويمكن أن نذكر في هذا السياق، للصحفي المصري علي زكي، الذي أشار العلامة محمد المنوني إلى دوره الكبير في إذكاء الروح الوطنية في النخبة المغربية، وقد كان مراسلا لجريدة المؤيد، وقدم مساعدة مهمة للوفد المغربي المشارك في مؤتمر الجزيرة الخضراء، ونصح بالإفادة من الخبرة التركية والمصرية في اعتماد الإصلاحات.
  
ـ خامسها، وهو التطور النوعي الذي حصل في حركة محمد بن عبد الكريم الخطابي وفي ثورة الريف، بعد إعلان القطيعة مع إسبانيا، والتحاقه بالعمل العسكري مع نهاية سنة 1919 وبداية 1920، أي بتزامن مع ثورة سعد زغلول في مصر، ومع أنه لا وجود لما يثبت هذه العلاقة المباشرة، إلا أن إقدام السلطات الإسبانية والفرنسية على اعتقال الكثير من رجالات الحركة بالدار البيضاء، ومصادرة العديد من النشرات العربية التي كانت تحرض الوطنيين على الثورة كما ذكر ذلك علال الفاسي في الحركات الاستقلالية، يؤكد التأثير الذي كانت تمارسه الصحف العربية الوافدة على المغرب على الوطنيين. 

ويمكن أن نفسر هذا التزامن، بالسياق الدولي الذي كان محكوما بنهاية الحرب العالمية الأولى وبوجود توجه استعماري إلى إحكام السيطرة على المستعمرات بعدما فرغت من كلفة الحرب، وبوعي الحركات الوطنية بهذا التحول، واتفاقها الضمني في المغرب العربي وشمال إفريقيا على توتير العمل الوطني، وإحداث تغيير في موازين القوى لصالحها لإجبار المستعمر على إعادة النظر في استراتيجية ما بعد الحرب والنزول عند الإصلاحات التي كانت تطالب بها.
 
وعلى العموم، يمكن القول مع الدكتور عبد الإله بلقزيز في خلاصة بحثه لحدود تأثر الحركة الإصلاحية المغربية بالفكرة النهضوية المشرقية، أن تأثير خطاب الإصلاح في المشرق العربي على النخب المغربية كان فعالا في صوغ ملامح الفكرة النهضوية الإصلاحية في مغرب القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين.  

 

التعليقات (0)