هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
منذ نجاحها في إسقاط نظام الحزب الواحد في تونس، رسمت الثورة التونسية مسارا فكريا وسياسيا مختلفا عما عرفته باقي دول الربيع العربي. وأدرك الفرقاء السياسيون التونسيون منذ وقت مبكر، أن المراحل الانتقالية لا يمكن إنجاحها إلا عبر توافق يقوم على تنازلات متبادلة بين الفرقاء والالتقاء حول القواسم المشتركة.
ومع أن المرحلة الثورية التي أعقبت سقوط نظام بن علي قد أوجدت مناخا فكريا وسياسيا انقساميا حادا كان كفيلا بدفع البلاد إلى انزلاقات خطيرة، فقد شهدت تونس حوادث اغتيال سياسي شملت بعض القيادات اليسارية والقومية، إلا أن العقلاء من قادة أبرز التيارات السياسية والفكرية، تمكنوا من نسج منوال للتوافق السياسي، تراجع بسببه منسوب الانقسام الفكري والسياسي لصالح إنجاح انتقال ديمقراطي تدريجي بخصائص فكرية وسياسية تؤشر إلى نقلة نوعية في مستوى التفكير العربي والإسلامي.
ومثلت المحطات الانتخابية التي عرفتها تونس بعد الثورة، سواء في انتخابات المجلس التأسيسي 2011، أو في الانتخابات البرلمانية والرئاسية 2014 ثم البلدية 2018، فاعلا رئيسيا في ترويض النخب الفكرية والسياسية، ودفعها إلى إبداع نهج فكري وسياسي على غير منوال سابق، تمكن بمقتضاه الإسلاميون واليساريون والليبراليون، من التوافق على آليات سياسية، لا تزال هشة نظريا، لكنها صلبة لجهة واقعيتها، قوامها الاحتكام للصندوق والقبول بنتائجه والعمل وفقها.
قبل أشهر من البدء القانوني للحملة الانتخابية تتزاحم الأحزاب السياسية التونسية على اجتذاب الناخبين وإقناعهم بأنها الأكثر أهلية واستعدادا لخدمتهم، حتى يمنحوها أصواتهم في انتخابات السادس من تشرين أول (أكتوبر) المقبل. وتتنافس أحزاب إسلامية وليبرالية ويسارية ومستقلون على مقاعد مجلس النواب، في ظل مشهد حزبي فاق فيه عدد الأحزاب 217 حزبا وحركة سياسية. وبينما تصعد أحزاب جديدة في استطلاعات الرأي، تحاول أحزاب أخرى ترميم أوضاعها، التي أضرت بها الخلافات والانقسامات الحادة.
تعتبر انتخابات هذا العام حاسمة في تثبيت المسار الديمقراطي، الذي دخلت تونس زمنه بعد ثورتها مطلع العام 2011. وهذه الانتخابات هي الثالثة برلمانيا في تونس بعد انتخابات المجلس التأسيسي في نهاية العام 2011، وأفرزت مجلسا تأسيسيا هيمن عليه الإسلاميون. وكانت الانتخابات الثانية في 2014 وأفرزت برلمانا هيمن عليه الليبراليون. لكن انقساماتهم أعادت الكلمة الفصل في مجلس نواب الشعب للإسلاميين. وينتظر التونسيون الانتخابات البرلمانية الثالثة في الخريف المقبل. وشهدت تونس انتخابات رئاسية في العام 2014 وأخرى بلدية في العام 2018.
تثبيت المسار الديمقراطي
لا يعيش التونسيون حتى اليوم في نظام ديمقراطي ثابت ومستقر الأسس راسخ الأركان.. إنهم في الواقع يعيشون في مسار ديمقراطي متحرك رجراج، يرجون أن تثبت أركانه انتخابات هذا العام البرلمانية والرئاسية، وتدخلهم من ثمة في أتون التنافس البرامجي بدلا من الصراعات الأيديولوجية، التي هددت على الدوام استقرار بلادهم، وكادت تودي بالمسار كله عام 2013 لولا قبول الإسلاميين الخروج من السلطة سلميا، عبر حوار وطني، رغم فوزهم الانتخابي المعلوم ووصولهم للسلطة عبر صناديق الاقتراع.
إقرأ أيضا: "عربي21" تحاور الغنوشي بالسياسة وعن "الإسلام الديمقراطي"
التجربة خير معلم، وتجارب الأعوام الثمانية الماضية بعد الثورة بتقلباتها وصراعاتها المفتوحة على المجهول علمت التونسيين الكثير. من هنا خفت الصراعات الأيديولوجية بين الأحزاب والتيارات الفكرية والسياسية. واضطرت نتائج الانتخابات الأحزاب المتنافية والمتصارعة إيديولوجيا إلى التقارب ومن ثم التحالف سياسيا، وتكوين حكومة توافق وطني.
تراجع خطاب الاستئصال
أقام حزب "نداء تونس" حملته الانتخابية في العام 2014 على إقصاء الإسلاميين. لكن نتائج الانتخابات اضطرت رئيس حزب "النداء" ورئيس الجمهورية لاحقا الباجي قايد السبسي للتراجع عن خطابه الانتخابي الاستئصالي، وحكم البلاد بالاشتراك مع حركة "النهضة" ذات المرجعية الإسلامية. وحتى حين انقسم حزب "النداء" وكتلته البرلمانية وتمرد رئيس الحكومة يوسف الشاهد على الحزب الذي أوصله للسلطة، لم يجد الشاهد من سبيل للبقاء في الحكم سوى التحالف مع "النهضة" التي حمت حكومته من السقوط في البرلمان.
حتى حزب "مشروع تونس" الذي يقوده اليساري السابق محسن مرزوق، وهو حزب خرجت قياداته من حزب "النداء" على خلفية رفضها الحكم مع حركة "النهضة"، انتهى "مشروع تونس" آخر المطاف إلى حزب شريك في الحكومة، التي تشارك فيها "النهضة"، وتعتبر القوة الأبرز الحامية لها من السقوط في البرلمان.
ويراهن العديد من المراقبين على أن إدراك الأحزاب والتيارات السياسية، بالتجربة والممارسة العملية، بأن الصراع الأيديولوجي مدمر للمسار الديمقراطي، ودافع للمواطنين نحو العزوف عن الشأن السياسي، وأن التنافس المطلوب في الديمقراطية هو تنافس في البرامج المرتكزة على خدمة الشعب، وهو أمر من شأنه أن يساعد في تثبيت التجربة الديمقراطية، وانتقالها إلى مرحلة الإنجاز الاقتصادي والاجتماعي، حتى يشعر الناس أن الحرية والتعددية مثمرة اجتماعيا واقتصاديا وخدميا، فالبطون الجائعة لا تحفل كثيرا بالحريات والديمقراطية.. كما إن التنافس في الديمقراطية تنافس بين الأشباه والنظائر من القوى السياسية، وليست صراعا وجوديا مفتوحا على المجهول بين أحزاب وقوى متناقضة.
ليبراليو تونس: انقسامات ورغبة في التفرد!
عرفت الأحزاب المحسوبة على الليبرالية صراعات وانقسامات حادة. فقد فرخ حزب "نداء تونس" طيلة السنوات الماضية عددا من الأحزاب لعل أبرزها حزب "مشروع تونس" و"تحيا تونس" وعدد من الأحزاب الصغيرة، التي لا يعتد بها. ولم يقف "النداء" في انقساماته عند هذا الحد فقد انقسم نصفين في مؤتمره الأخير الذ أقيم قبل أسابيع قليلة في مدينة المنستير (جنوب شرق العاصمة). وباتت له قيادتان تتنازعان الشرعية، وتتهم كل واحدة منهما الأخرى بالتشويش على الحزب وتشويهه والإضرار به.
ولكن على الرغم من انقساماته العديدة حافظ "نداء تونس"، خلال السنوات الماضية، على موقع متقدم في استطلاعات الرأي، وحل ثانيا بعد حركة "النهضة" في الانتخابات البلدية قبل أقل من عام. لكن انقسام الحزب عموديا وتنافس شقين منه على الشرعية، ربما تؤثر على حظوظه في الانتخابات المقبلة. وقد يكون أبرز المستفيدين من الانقسام حزب "تحيا تونس" الذي سيعقد مؤتمره التأسيسي نهاية شهر نيسان (أبريل) الجاري. ويتوقع أن يعلن رسميا على تولي رئيس الحكومة يوسف الشاهد قيادة هذا الحزب الناشئ.
ويذهب بعض المراقبين إلى أن الانقسامات العمودية في حزب "النداء" قد تكون تمت بتحريض من رئيس الحكومة، الذي حاول السيطرة على الحزب فلم يفلح، فأعلن الانشقاق عنه. ويعرف الجميع أن ضعف حزب "نداء تونس" وتراجعه سيصب في جراب حزب رئيس الحكومة، الذي يسعى لوراثة ناخبي "النداء"، بعد أن أخفق في وراثة حزبهم. وقال قيادي في حزب "تحيا تونس": إن الحزب يسعى للفوز بأكثر من 109 مقعدا في البرلمان، حتى يتمكن من تشكيل الحكومة بمفرده، معولا في ذلك على تراجع حزب "النداء" وتصويت ناخبيه لصالح حزب رئيس الحكومة.
إقرأ أيضا: لا خوف على التوافق التونسي رغم حدة الخلافات
حزب آخر يسعى للاستفادة من ناخبي "النداء" ويريد أن يحكم وحده هو أيضا.. إنه الحزب "الدستوري الحر"، وتتزعمه قيادية سابقة في حزب الرئيس التونسي المخلوع ابن علي، قبل حله. وتجاهر عبير موسي بمناصرتها للرئيس المخلوع، وتهاجم الثورة التونسية، وتعتبرها تمردا قام به فوضويون خربوا البلاد وأضروا باقتصادها. وتتحدث موسي، المنبوذة من معظم الطبقة السياسية، عن سعيها للفوز بأغلبية كبيرة في البرلمان حتى تخرج "الخوانجية" من السلطة. وتتحدث أيضا عن مساعيها لحظر حركة "النهضة" وإعادة الإسلاميين للسجون والمنافي، كما فعل بهم نظام الرئيس المخلوع. ويعتبر الحزب "الدستوري الحر" من الأحزاب الصاعدة نسبيا في استطلاعات الرأي بالنظر للغلاء وعجز الحكومة عن تحقيق نتائج جيدة في الميدان الاقتصادي.
تراجع اليسار.. والإسلاميون في المقدمة
مثل الليبراليين يشكو معسكر اليسار من انقسامات حادة وتراجع واضح في استطلاعات الرأي. ويتحدث الزعماء اليساريون عن رغبتهم توحيد المعسكر اليساري، دون أن يقدم أي حزب من أحزابه تنازلات، ويتوقعها أن تأتي من الأحزاب الأخرى الشبيهة والمنافسة. ونفس الشيء يحصل في المعسكر الليبرالي، إذ تسمع كثيرا دعوات لتوحيد قوى الوسط (الليبراليون)، ولكن كل حزب يفهم التوحيد على أنه خضوع الأحزاب الأخرى له، واندماجها فيه. ويرى كل زعيم حزب أنه المؤهل أكثر من غيره لقيادة معسكر الوسط، وكذلك يرى زعماء اليسار.
في الأثناء تحافظ حركة "النهضة" على تربعها على عرش استطلاعات الرأي. وقال حسن الزرقوني رئيس مركز استطلاعات الرأي (سيغما كونساي)، وهو من أشهر مراكز استطلاعات الرأي في البلاد، إن نتائج الاستطلاعات الحالية، التي تضع حركة "النهضة" في المقدمة بفارق كبير عن ملاحقيها، غير قابلة لتغيرات دراماتيكية، خلال الأشهر المقبلة، ما لم تقع عملية إرهابية كبيرة، يمكن أن تدفع الناخبين لتغيير توجهاتهم التصويتية. وأعلن الزرقوني في ضوء ذلك أن الأمين لحركة "النهضة" زياد العذاري، وهو من أنشط وزراء الحكومة الحالية، سيكون رئيس الحكومة القادم، على حد قوله.
في الأثناء تبدو استراتيجية أحزاب اليسار، التي تعول على تجريم حركة "النهضة"، عبر اتهامها بالمسؤولية عن الاغتيالات السياسية، التي عرفتها تونس قبل سنوات، وبأن لها تنظيما سريا يخترق مؤسسات الدولة، قد أخفقت في تجريم "النهضة" في أوساط الرأي العام. كما إن هذه الاستراتيجية لم تنفع قوى اليسار في شيء.. فالناخب مل الصراعات الحزبية، ويبحث عن أحزاب تجعل تحسين الوضع الاقتصادي والخدمات على سلم أولوياتها.