لا تبدو أزمة الوقود في سوريا مجرد أزمة عابرة، حتى ولو نجح النظام في اجتراح حلول جزئية لها، إنها أزمة تعكس استراتيجية أمريكية جديدة للتعاطي مع الملف السوري من بوابة الاقتصاد.
معالم الاستراتيجية الأمريكية واضحة في المدى المنظور وإن كانت غير ذلك على المستوى البعيد، أي هل الخطوات الأمريكية القائمة ستتبع بخطوات لاحقة أكثر تشددا؟
أسئلة صعبة
الإجابة على هذا السؤال مرتبط بالأهداف الأمريكية الحقيقية حيال حل الأزمة السورية، هل الهدف هو إسقاط النظام السوري من البوابة الاقتصادية عبر دفع قاعدته الشعبية للثورة عليه، أم لإحداث انشقاق داخل المنظومة الحاكمة يؤدي في النهاية إلى تغيير في بنية الحكم تقبل بالحلول السياسية؟ أم الضغوطات الاقتصادية هذه ليست سوى أداة لدفع النظام لتقديم بعض التنازلات السياسية؟
من الصعوبة بمكان توقع حدوث ثورة شعبية في سوريا ضد النظام لأسباب اقتصادية، فالثورات الناجمة عن البؤس المادي والمعنوي في أقصى درجاته كانت من سمات القرون السابقة قبل اكتشاف الثورة الزراعية، والتاريخ الحديث يعلمنا عدم وجود مثل هذه الثورات، باستثناء الماركسيين التقليديين الذين ما زالوا يعتقدون بها.
لكي يحقق الحصار الاقتصادي أهدافه، لا يجب الاكتفاء بمعاقبة الحكومات والشركات على التعامل مع النظام السوري
ومن الصعوبة بمكان أيضا توقع حدوث انشقاقات داخل المنظومة الحاكمة، بسبب البنية العصبوية التي تشد أزر الطائفة العلوية على صعيد الحكم من جهة، وعدم وجود برجوازية صناعية ـ تجارية ذات إرث مديني قادرة على ممارسة الضغط من جهة ثانية.
ولذلك، فإن أغلب الظن أن الهدف الأمريكي هو ممارسة ضغوط اقتصادية لانتزاع تنازلات سياسية معينة، ولعل نص قانون "قيصر" الذي أجازه الكونغرس الأمريكي يسمح للرئيس تعليق العقوبات في حال دخول الأطراف في مفاوضات سياسية جادة وتوقف العنف ضد المدنيين، وهذه عبارة تؤكد أن المراد من
الحصار الاقتصادي، هو دفع النظام إلى تقديم تنازلات سياسية، ليس معروفا إلى الآن حجمها ونوعها.
خطوات على الأرض
لكي يحقق الحصار الاقتصادي أهدافه، لا يجب الاكتفاء بمعاقبة الحكومات والشركات على التعامل مع النظام السوري، ولا منع ناقلات النفط من الوصول إلى سوريا فحسب، بل يتطلب الأمر محاصرة الجغرافيا السورية، خصوصا من جهتي لبنان والعراق، حيث عمليات التهريب كبيرة.
ثمة معلومات متفرقة تتحدث عن نية أمريكية للسيطرة على مدينة البوكمال ومعبرها، عبر فصائل الثورة (مجلس دير الزور العسكري، مغاوير الثورة)، وربما قوات سوريا الديمقراطية.
لكن ذلك يتضارب مع الاستراتيجية الأمريكية الحريصة على عدم وقوع اشتباكات برية مباشرة بين القوات المدعومة منها وبين القوات المدعومة إيرانيا.
ومع أن الولايات المتحدة بدأت مؤخرا بإعادة تسليح وتدريب فصائل معارضة في منطقة التنف وفي منطقة حقل العمر بدير الزور، في وقت بدأ الحرس الثوري الإيراني وفاطميون تعزيز مواقعهم في البوكمال، إلا أنه من غير المعروف إلى الآن كيف سيتم التعاطي الأمريكي مع هذه المنطقة الجغرافية.
وأغلب الظن أنه لن تتم عملية عسكرية في الجانب السوري، بسبب الحضور الإيراني والروسي القوي، في حين قد تحدث في الجانب العراقي، وبهذا تكون مهمة الفصائل المعارضة في سوريا، مراقبة الحدود ومنع دخول شحنات من النفط، في وقت تكثف واشنطن مراقبتها لمعبر البوكمال.
ثمة معلومات متفرقة تتحدث عن نية أمريكية للسيطرة على مدينة البوكمال ومعبرها، عبر فصائل الثورة
ويتطلب الأمر أيضا مراقبة الحدود السورية ـ اللبنانية لمنع عمليات التهريب، ويبدو أن واشنطن بدأت خطوات عملية من الجانب اللبناني بوضع أبراج مراقبة، بالتزامن مع تهديدها الشركات اللبنانية إدخال النفط إلى سوريا.
الوضع ذاته ينطبق على الحدود الأردنية، حيث وضعت أبراج مراقبة وسواتر ترابية لمنع التهريب.
كل هذه المعطيات، تؤكد سعي الإدارة الأمريكية إلى إحداث شلل اقتصادي عام في سوريا، كأداة ضغط قوية ضد النظام لإجباره على قبول المسار السياسي، وتقديم التنازلات المطلوبة.
غموض الموقف الروسي
وما يثير الانتباه هو الموقف الروسي الصامت حيال هذه الإجراءات الاقتصادية الخانقة، فلم نجد تصريحات واضحة من موسكو سوى ما قاله عضو مجلس الفيدرالية الروسي أوليغ موروزوف من أن النظام السوري لم يطلب من روسيا حل أزمة الوقود، وما قاله نائب رئيس الوزراء يوري بوريسوف من أنه قدم للأسد مقترحات محددة بخصوص حل الأزمة.
وتبدو هذه التصريحات مواربة، وتعكس عدم وجود اتفاق بين الجانبين، وأن موسكو ليست في وارد الهرولة لإنقاذ النظام اقتصاديا، ليس بسبب التكلفة الاقتصادية فحسب، وإنما لأسباب سياسية، حيث يبدو صناع القرار في الكرملين راغبين بانتزاع تنازلات من دمشق على المستوى السياسي.
وقد كشف العام ونصف العام الماضي، كيف أن روسيا ظهرت عاجزة تماما عن إحداث اختراق فيما يتعلق ببضعة أسماء في القائمة الثالثة من قوائم اللجنة الدستورية.
ومع ذلك، من المبكر الحديث عن نجاح الاستراتيجية الأمريكية، فالنظام السوري مستعد لتمرير الوقت على أمل حدوث متغيرات دولية، أو متغيرات داخل الساحة الأمريكية، مع انعدام وجود ضغوطات شعبية في الداخل.
كاتب وإعلامي سوري