دخل الصراع الأمريكي الإيراني القديم المتجدد مرحلة مفصلية في نيسان/ أبريل الجاري، بعدما اتخذت واشنطن قرارين "خطيرين وغير مسبوقين"، ليس في تاريخ هذا الصراع فحسب، وإنما في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية والعالم؛ يتعلق أحدهما بتصنيف جزء كبير من القوات المسلحة الإيرانية (أي الحرس الثوري) "منظمة إرهابية"، ويرتبط الآخر بفرض حظر شامل على الصادرات الإيرانية من النفط، ليجعل ما بعد هذا الشهر مختلفا تماما عما قبله على مدى العقود الأربعة الماضية؛ التي شهدت هبوطا وصعودا في الصراع الدائر بين البلدين، لكنه لم يصل إلى المستوى الذي وصل إليه اليوم.
وتاتي هذه التطورات المتسارعة على أعتاب الذكرى الأولى من الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، في الثامن من أيار/ مايو عام 2018، وسط تهديدات أمريكية جديدة بفرض مزيد من العقوبات على إيران، الأمر الذي يفتح الباب أمام جملة من التساؤلات حول الخطوات الأمريكية القادمة، وأنه هل يمكن أن تكون المواجهة العسكرية مع إيران ضمن هذه الخطوات؟
تاتي هذه التطورات المتسارعة على أعتاب الذكرى الأولى من الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي
في الإجابة على هذه الأسئلة، يتوقع أن تواصل الإدارة الأمريكية
الضغوط على إيران بوتيرة أسرع خلال المرحلة المقبلة، ليصل إلى مرحلة فرض حصار دولي وإقليمي عليها، من خلال السعي إلى قطع جميع العلاقات التجارية بين إيران والعالم الخارجي. وفي السياق، يفترض أن تقدم واشنطن خلال الأيام والأسابيع القادمة على حظر المنتجات البتروكيمياوية الإيرانية، وذلك بحسب مصادر أمريكية.
ويشكل السعي الأمريكي لفرض حصار شامل على إيران فصلا تصعيديا جديدا من استراتيجية "الضغوط القصوى"؛ التي تمارسها منذ الانسحاب من الاتفاق النووي، بعدما أزاحت الستار عن عدة فصول لها حتى اللحظة، بغية تحقيق الشروط الـ12 التي وردت على لسان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في أيار/ مايو 2018، وأكد عليها مجددا بعد وقف الإعفاءات الممنوحة للعقوبات على قطاع الطاقة الإيراني قبل أيام. وهي ترتبط بملفات عدة، منها البرامج النووية والصاروخية، والدور الإقليمي لإيران.
دونالد ترامب بحاجة إلى تحقيق نتائج ملموسة لاستراتيجيته تجاه طهران خلال المرحلة المقبلة، قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية
في الحقيقة، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بحاجة إلى تحقيق نتائج ملموسة لاستراتيجيته تجاه طهران خلال المرحلة المقبلة، قبل حلول موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2020. لذلك، ستكون هذه المرحلة حبلى بتطورات وتصعيدات على جميع الأصعدة، لكن يستبعد أن تصل إلى حد شن هجوم عسكري على إيران، في كونه مغامرة غير محسوبة، نتائجها ليست مضمونة على ضوء نتائج الحرب على أفغانستان والعراق، ومن الممكن أن تنعكس سلبا على حظوظ ترامب في الانتخابات الأمريكية المرتقبة.
مع ذلك، فإن فرص نشوب مواجهة عسكرية ستبقى قائمة ولو بدرجة أقل، وخاصة أن الحظر الشامل الذي فرضته واشنطن على قطاع النفط الإيراني يستبعد أن يصفّر الصادرات النفطية الإيرانية، رغم أنه سيخفضها، حيث لدى طهران طرقها الالتفافية المختلفة لتصدير نفطها، على ضوء تجاربها السابقة في هذا الصدد، الأمر الذي من شأنه أن يحبط مفاعيل التصعيد الأمريكي الأخير الذي طاول العامود الفقري للاقتصاد الإيراني. بالتالي، لا يُستبعد أن تلجأ الإدارة الأمريكية، وبمشاركة إسرائيلية، إلى تنفيذ تهديداتها "الخجولة" سابقا باستهداف ناقلات النفط الإيرانية في المياه الإقليمية والدولية، بغية تصفير صادرات إيران من النفط وتفعيل مفاعيل العقوبات. وعليه، جاء تحذير وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف من نيويورك الأربعاء الماضي، لواشنطن من "أي محاولة لوقف الصادرات النفطية الإيرانية"، قائلا إن "على الإدارة الأمريكية أن تتحمل عقبات ذلك". وفي هذا الإطار أيضا، هدد رئيس الهيئة العامة للأركان الإيرانية، محمد باقري، بأنه حال تم منع تصدير إيران نفطها من مضيق
هرمز،
فإنه لن يتم تصدير أي نفط عبره.
فرص نشوب مواجهة عسكرية ستبقى قائمة ولو بدرجة أقل، وخاصة أن الحظر الشامل الذي فرضته واشنطن على قطاع النفط الإيراني يستبعد أن يصفّر الصادرات النفطية الإيرانية، رغم أنه سيخفضها
ويكفي لهذا التطور الخطير، إن حدث بالفعل، أن يشعل مواجهة عسكرية بين الجانبين، كالخيار المفضل لدى الصقور المتطرفين في الإدارة الأمريكية، أمثال مايك بينس وجون بولتون.
أما في ما يتعلق باحتمالات استئناف المفاوضات بين طهران وواشنطن، والتي تحدثت عنها أخيرا تقارير صحفية، فخلافا لبعض التوقعات، وما نشرته وسائل إعلامية إقليمية بهذا الشأن، من أن طهران تبحث عن قنوات للتفاوض مع الإدارة الأمريكية، يستبعد أن تقدم هي على التفاوض في الوقت الراهن، حيث هي تعلم جيدا أنه لو أجرت أي مفاوضات مع الولايات المتحدة في هذه الظروف، ستكون في مصلحة دونالد ترامب وليست لصالحها، وهي لن تكون مفاوضات حقيقية تحقق نتائج ترضي الطرفين، ناهيكم عن أن الشروط الـ12 الأمريكية نفسها تقلص جدا فرص التفاوض، إن لم تصفرها.
ثم إن تجربة فشل الاتفاق النووي وتجربة كوريا الشمالية وتجارب أخرى؛ حاضرة أمام طهران، لتؤكد أن العقوبات ستبقى قائمة عليها دون تراجع فيها، حال العودة إلى خيار التفاوض، وأن ترامب سيستفيد من صور تذكارية لهذه المفاوضات لصالح حملته الانتخابية القادمة، ليقول إنه قد نجح في إخضاع إيران دون أن يقدم شيئا في المقابل. بالتالي، أمام هذا الوضع، ستظل إيران تمارس استراتيجية "لا
تفاوض ولا حرب"، لتكسب مزيدا من الوقت وتتأقلم مع الظروف الصعبة التي أوجدتها استراتيجية "الضغوط القصوى" الأمريكية لاستحالة قبولها بالشروط الأمريكية الـ12، التي وإن لم تستهدف تغيير النظام الإيراني، فإنها تسعى إلى تفريغه من المضمون.