تغيب عن الأدبيات السياسية للحركات الإسلامية عموماً دراسةُ "ظاهرة
الدولة"، وظروف نشأتها، كمفهوم بلورته النظريات الغربية الحديثة، وما رافق ذلك من بروز لمفهوم "القوميّة"، الذي أدّى إلى تغيّر في بنية النظام السياسي الأوروبي من عصر "الإمبراطوريات" التي تغذّت على نظام الإقطاع، إلى عصر "الدولة القوميّة"، التي برزت مع ظهور البرجوازية وتطوّراتها اللاحقة.
كما يغيب لدى المفكرين المسلمين عموماً التغيّرات الكثيرة التي لحقت بـ"ظاهرة الدولة"، ولا سيما بعد انهيار الحرب الباردة، وانتشار ظاهرة العولمة التي تشكّل تهديداً حقيقياً لكلّ المفاهيم الأساسية التي قامت عليها هذه الظاهرة، ولا سيما منها: "السيادة الوطنية" والحدود، وحتى "الاستقلال" الوطني.
ولقد أدّى غياب، أو تغييب، دراسة "الدولة" كظاهرة سياسية، تقوم (كما باقي الظواهر) في عالم واقعي وتتأثر بالظروف وتخضع لقوانين التغيّر التاريخي، إلى تبنّي مفهوم للدولة، لدى الكثير من الحركات الإسلامية، وكأنّه معطى بديهي أو قبْلي، وفوق واقعي، يتجاوز المعطيات والحقائق التاريخية. وقد ساهم استخدام النصوص الإسلامية، ولا سيما نصوص القرآن الكريم والسّنة الشريفة، في إضفاء قداسة على هذه الصورة المتخيّلة، حتى بدت بالنسبة لكثيرين وكأنّها "ركن من أركان الإسلام"، و"حاجة تفترضها أيديولوجيته"، وأنّه "لا وجود للإسلام بدونها".
غير أنّ العلوم السياسية، الحديثة نسبياً، تقدّم لنا صورة مختلفة لمفهوم الدولة، حتى على المستوى النظري. فالدّولة، في العلوم السياسية الحديثة، تقوم على ركائز ثلاث، هي: "الإقليم والشعب والسلطة"، إضافة إلى العلاقات التي تنتظم وفقها هذه الرّكائز في فترة تاريخية معيّنة، وهو الأمر الذي يعني أنّ الدّولة بذاتها متغيّرة، ويصعب وضع تعريف محدّد وواضح ونهائي لها، إلا في إطار زمني وجغرافي وثقافيّ معيّن. ذلك أنّ كلّ ركيزة من الرّكائز الثلاثة في حالة تغيّر مستمر، وتتّصف بالسّيولة، التي تُصيب أيضاً منظومة العلاقات النّاظمة لها.
ويمكن التدليل على هذه الحقيقة عبر النّظر في تاريخ الكيانات السّياسية التي سُمّيت "دولاً" عبر التاريخ. ولا تشكّل "الدّولة الإسلامية" استثناءً في هذا المضمار. فإضافة إلى التّغيّر المستمرّ في ركيزتي "الإقليم" و"الشعب" بـ"الفتوحات" تارة، وبـ"الغزو الخارجي" أو "الاحتلال"، أو "الضم" أو "الانفصال" تارة أخرى، فإنّ العلاقة بين "الشعب" و"السّلطة" كانت هي أيضاً محلّ تبدّل وتغيّر مستمرّيْن. وأبرز توصيف يستخدم للتّعبير عن ذلك، في تاريخ المسلمين، هو الميل إلى استخدام مصطلح "الخلافة الراشدة"، بما يحمله من دلالات إيجابيّة، في مقابل مصطلح "المُلك العضوض"، بما يكتنزه من إيحاءات سلبيّة.
تشكّل "السّلطة" الرّكيزة الأساسيّة لـ"الدولة الحديثة"؛ وتعرّف "السّلطة" عادةً بأنّها: "الحقّ المشروع في استخدام القوّة/ العنف بشكل حصري". فالحدّ المتوافق عليه في تعريف الدّولة الحديثة هو أنّ للحكومة وحدها حق ممارسة السّلطة في إقليمها، وحمل الأفراد والجماعات على احترام سيادة القانون والرّضوخ له، ولو بالقوّة إذا لزم الأمر.
بعبارة أخرى، تُعتبر الدّولة هي صاحبة القوّة العليا غير المقيّدة في المجتمع؛ وهي بهذا تعلو فوق أيّة تنظيمات أو جماعات أخرى داخل الدولة. وتُعتبر أجهزة الدولة مسؤولة عن صياغة القرارات العامّة الجَمَعيّة وتنفيذها في المجتمع، وعادة ما تكون قرارات الدولة مُلزمة للمواطنين، حيث يُفترض أن تُعبّر هذه القرارات عن المصالح الأكثر أهمية للمجتمع، وحيث تملك الدّولة قوّة الإرغام لضمان الالتزام بقوانينها، ومعاقبة المخالفين. فالدّولة هي صاحبة امتياز العنف في المجتمع.
ونظراً إلى إدراك بعض المفكرين المسلمين المعاصرين (كحسن التّرابي، وراشد الغنّوشي) لجوهر طبيعة الدّولة، رأوا أنّها تعادل "الطاغوت" في نص القرآن الكريم؛ ذلك لأنّ الطّغيان ليس صفة طارئة عليها، ولا هو ظرفي فيها، بل يشكّل جوهر وجودها، بمقتضى طبيعة "السّلطة" التي تمارسها.
ولئن كان الفكر السّياسي الإسلامي المعاصر قد ركّز في مناقشته لـ"الدولة الحديثة" على مسألة التشريع، باعتباره متعلّقاً بمفهوم "الحاكميّة"، إلا أنّ اللافت أنّ هذا النقاش لم يتطرّق إلى مفهوم "السّلطة"، رغم ما يتعلّق بها من حقوق العباد ودمائهم وأعراضهم وممتلكاتهم.
السّؤال المطروح هو: هل أجاز الإسلام قيام مثل هذه "السّلطة"، سواء أكانت فرديّة أم جماعيّة، وهل خوّل أحداً (فرداً أو هيئة) مثل هذه الصّلاحيّات الواسعة؟!
عادةً ما يتمّ الخلط، في نقاش كهذا، بين مسألتين: مسألة تنظيم المجتمع، ومسألة ممارسة السّلطة في المجتمع، رغم ما بينهما من اختلاف بيّن وواضح.
التّنظيم الاجتماعي حاجة ماسّة وضرورية، ولا يُتخيّل قيامُ مجتمع بدونه. ولكنّ مفهوم "السّلطة" أمر مغاير للبُعد التّنظيمي؛ فهو يتجاوز المسألة الإدارية إلى مسألة استخدام القوّة، وإلى مصدر الشرعيّة التي تجيز استخدام هذه القوّة.
عادة ما تخلط الأدبيات السياسية الإسلامية المعاصرة بين المسألتين؛ ويتجلّى ذلك بصورة واضحة في الكلام عن ضرورة وجود "السّلطة" لتنفيذ أحكام الإسلام، وإقامة شرع الله. فالصّورة شبه المستقرّة اليوم، في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، هي أنّ الحكومة هي المسؤولة عن تنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود، وما إلى ذلك.
وقد تنبّه حسن الترابي وراشد الغنوشي إلى هذا الخلط، فقالا بأوضح العبارات إنّ المكلّف بتنفيذ الحدود وإقامتها هو المجتمع، وليس الدولة؛ وإنّ الدولة، بمعنى التنظيم الاجتماعي، ليست إلا وكيلاً عن المجتمع، الذي هو صاحب السّلطة الحقيقية والفعلية. وكان حسن الهضيبي قد قارب ذلك المعنى؛ عندما ميّز بين "تحكيم شرع الله" و"إنفاذ حكم الله". ورغم كلّ الجهود التي بذلت للتنبيه إلى خطورة الصّورة النمطية التي ترتسم في أذهان المسلمين حول تصوّر مفهوم الدولة الحديثة، إلا أنّ هذه الصورة النمطية بقيت هي السائدة في أذهان المسلمين، الأمر الذي يعني أنّ الحاجة ملحّة إلى استكمال هذه الجهود، وفق مقاربات أكثر تأصيلاً.
ربما كان يجدر الانطلاق من دراسة ظاهرة "الدولة" في إطارها التاريخي، وتفكيك العناصر المكوّنة لها، وتحرير مواطن الخلاف حولها. غير أنّ الذي جرى غالباً هو العكس تماماً، ما أدّى إلى توظيف النصوص الإسلامية لإضفاء المشروعية على "الدولة" في صيغتها الحداثية الغربية.