يطلقون عليها "ورشة المنامة"، وعنوانها "السلام من أجل الازدهار"، والتي سُتقام في البحرين يومي 25 و26 حزيران/ يونيو، وسوف يحضرها ممثلو حكومات العالم ووزراء مالية بعض الدول، وعلى رأسهم وزير مالية الكيان الصهيوني "موشيه كحلون"، كما نقلت وسائل إعلام صهيونية، حيث ستُعرض في الورشة الأفكار والفرص الاستثمارية في المنطقة أمام رجال أعمال ومستثمرين من الدول العربية ومن مختلف دول العالم؛ للمساهمة في الشق الاقتصادى من خطة السلام الأمريكية "
صفقة القرن"، وتهدف هذه الورشة إلى التشجيع على الاستثمار في الأراضى
الفلسطينية، وحشد الدعم الإقليمي والدولي لمزيد من الاستثمارات الاقتصادية التي يمكن أن توفرها خطة السلام الأمريكية؛ المنتظر الإعلان عنها خلال الأشهر القادمة..
بادئ ذي بدء، فإني أتساءل: لماذا سُميت ورشة وليس مؤتمراً؟! أهذا يندرج ضمن خطة التمويه والخداع التي يمارسونها منذ أن أعلنوا عن صفقة العار الملعونة المسماة بـ"صفقة القرن"؟ أم خجلاً من الإعلان الرسمي عن التطبيع بين الحكومات العربية والكيان الصهيوني وتصفية القضية الفلسطينية؟! على الرغم من أن الخجل قد تواري نهائياً في السنوات الأخيرة منذ أن وصل "دونالد ترامب" لسدة الحكم في أمريكا، وأصبح اللعب على المكشوف كما يقولون، ولم تعد هناك أشياء تحدث في الخفاء، وكلام يُقال من تحت الطاولة غير ما يصرح به القادة أمام الميكروفونات، فنحن في الزمن الكاشف والفاضح لكل من تآمر على فلسطين والأمة العربية ككل، فقد سقطت الأقنعة والكل ظهر بوجهه الحقيقي دون تجميل، وربما كان هذا هو المكسب الوحيد الذي خرجنا به من تلك الحقبة المؤلمة المُوجِعة من تاريخ أمتنا!
لا بد أن نعود إلى جوهر "صفقة القرن" كى نفهم لماذا ستُعقد "ورشة المنامة" ولماذا أختيرت البحرين بالذات لتُقام على أرضها؟ ولنأخذ إجابة هذا السؤال من لسان المحلل السياسي الصهيوني بالقناة 13 الإسرائيلية، "باراك رافيد"، الذي قال: "إن سبب اختيار البحرين عائداً للعلاقات الوثيقة التي تربط إسرائيل بالبحرين والتي تطورت كثيراً في الفترة الأخيرة".
الأصل في تلك الصفقة الملعونة هو إنهاء "حالة" الصراع بين العرب والكيان الصهيوني دون "حل" الصراع نفسه والوصول لتسوية عادلة، ولكي يتم ذلك لا بد من التطبيع بين العرب والعدو الصهيوني من خلال رشى مالية تُقدم في صورة استثمارات وصفقات اقتصادية في الأراضى الفلسطينية المحتلة ترفع من المستوى الاقتصادى المتدنى للمواطن الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة على حد سواء، والذي يعاني من ضائقة مالية يفرضها عليه العدو الصهيوني، إذ إنهم استبدلوا الشق الاقتصادي بالشق السياسي في القضية الفلسطينية، أي مقايضة مسار المال والتنمية الاقتصادية للفلسطينيين بالمسار السياسي، وهو العنوان الأبرز لخطة السلام الأمريكية، ظنناً منهم أن هذه الأموال، والتي من المؤكد ستكون أموالاً خليجية ستعمي أبصار الفلسطينيين وتغيب عقولهم وتُنسيهم قضيتهم الأساسية ومشروعهم الوطني في إقامة دولتهم المستقلة، كما أنها ستغري الدول المُضيفة للاجئين الفلسطينيين لتوطينهم لديها كوطن بديل، فيسقط حق العودة نهائياً. ولنتذكر قرار ترامب العام الماضي بقطع كل تمويل للأنروا، المختصة برعاية شئون
اللاجئين في مخيماتهم البائسة من غذاء لصحة لتعليم.. إلى آخره، والطلب من دول أخرى فعل نفس الشيء أيضا.
ولكي نعرف لماذا أتخذ ترامب هذا الموقف من الأنروا، لا بد أن نعرف أهمية هذه المنظمة والدور المنوط بها، فقد تأسست وكالة "الأنروا" عام 1948، أي بعد نكبة 48، وطرد ما لا يقل عن 800 ألف فلسطيني خارج أرض فلسطين. وتشمل صفة "لاجئ" جميع الفلسطينيين الذين غادروا فلسطين عام 1948، بمن فيهم أبناؤهم وأحفادهم، ويصل عددهم الآن إلى نحو 5.4 مليون شخص، وفقاً لإحصائية "الأنروا"، وهو ما تعتبره الإدارة الأمريكية أهم العقبات التي تحول دون السلام المزعوم بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني، لذلك بدأت واشنطن باتهام الوكالة بالفساد، وأكملها نتنياهو بمطالبته بإلغائها، مع الزعم بأن الوكالة تكرس مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وأنها تبالغ في أعدادهم، فيما حذر مدير وكالة "الأنروا" في غزة "ماثياس شمايل"؛ من أن قرار وقف التمويل سيؤدى إلى تدهور أوضاع اللاجئين الفلسطينيين الإنسانية، كما طالب أصحاب القرار بتمويل المنظمة وبفصل القضايا السياسية عن الإنسانية. ويرى أن قرار ترامب هذا جاء بمثابة عقاب للفلسطينيين لموقفهم الرافض لقراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية للقدس.
وجدير بالذكر أن أمريكا تساهم في تمويل "أونروا" بحوالي 350 مليون دولار سنوياً، وتعد أكبر الدول الممولة للوكالة التي تبلغ ميزانيتها 1.2 مليار دولار، وربما نتساءل: ماذا يمثل هذا المبلغ الزهيد لأغنى دولة في العالم؟ وما قيمته بجانب 600 مليار دولار تعهدت السعودية بضخها في الخزانة الأمريكية أثناء زيار ترامب الميمونة للمملكة؟!
كانت هذه الخطوات الأولى للصفقة الحرام، فقد كان هدف قرار ترامب هو إنهاء ملف اللاجئين، وهو الملف الأكثر تعقيداً من على طاولة المفاوضات، وبالتالي إسقاط بند "حق العودة" من دائرة التفاوض. ولهذا يسعى "جاريد كوشنر" ،الصهيوني صهر ترامب ومستشاره الخاص المكلف بالملف الفلسطيني الإسرائيلي، للقضاء على الأنروا وتجريد الفلسطينيين بالضفة والقطاع من صفة لاجئ، وتقليص عددهم إلى أقل من 500 ألف لاجئ (من 5.4 مليون لاجئ مسجلين في سجلات الأمم المتحدة). ولهذا جاءت فكرة إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في البلدان العربية المجاورة (مصر والأردن والعراق). وهي في الحقيقة فكرة قديمة منذ الخمسينيات، لكن كان يقابلها رفض تام من الحكومات العربية في السابق، حفاظاً على الهوية الفلسطينية، لهذا لم يُمنح الفلسطينيين جنسية الدولة التي يقيمون فيها، واعتبروا ضيوفاً على أرضها كى يظل "حق العودة" قائما لا يمس، وكان هذا قرار جامعة الدول العربية حينما كانت لا تزال على قيد الحياة!
ونحن لا نستطيع أن نفصل كل هذا عن القانون الذي أصدره الكيان الصهيوني العام الماضي، وسُمي بـ"قانون الدولة القومية"، والذي أسفر فيه الكيان الصهيوني عن وجهه العنصري القبيح، فجعل من فلسطين وطناً وأرضاً للشعب اليهودي دون غيره، وجعل حق تقرير المصير حقا لليهود دون غيرهم على هذه الأرض، وجعل اللغة العبرية اللغة الرسمية الوحيدة في البلاد، وجعل العرب مجرد أقلية، ومن ثم تُفرض على عرب فلسطين حتمية القبول بأحد خيارين؛ إما الرحيل من الدولة إلى خارجها وإما بالقبول بالدونية، وأن يتحولوا إلى مجرد أقلية ليس من حقها المطالبة بالمواطنة والحقوق المتساوية، مما يرسخ للأكذوبة الكبرى التي روجها الصهاينة عبر قرن من الزمان؛ من أن فلسطين هي أرض الشعب اليهودي فقط، وهي أرض الميعاد وعطاء من الرب؛ لا يمكن التفريط فيه، ويعني أيضا أن الوجود الفلسطيني على هذه الأرض كان وجوداً احتلالياً، وأن حرب عام 1948 كانت حربا للتحرير من المحتل الفلسطيني، وأن الأرض التي يتم الاستيطان الآن، فيها من القدس للضفة، ليست احتلالاً، بل هو توسع في الوطن الإسرائيلي، لذلك نص القانون على أن "الدولة تعتبر تنمية الاستيطان اليهودي قيمة قومية، وستعمل على تشجيع ودعم تأسيسه، وأن الهجرة التي تؤدي للمواطنة المباشرة هي لليهود فقط".
وأيد نتنياهو هذا التوجه بعد ذلك، في كلمته في الكينست، قائلاً: "هذه لحظة مؤسسة في تاريخ الصهيونية وتاريخ دولة إسرائيل، فبعد 122 عاماً من نشر هيرتس حلمه (مؤسس المشروع الصهيوني) ثبتنا بقانون المبدأ الأساسي لوجودنا.. إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي. أنا أكرر هذه دولتنا، دولة اليهود".
كل هذا كان تكريساً للإنهاء الكامل "لحق العودة"، لهذا سارعت الولايات المتحدة بالترحيب والتأييد لهذا القانون العنصري البغيض. وكان قد سبق لها الاعتراف بالمستوطنات الصهيونية التي أقيمت في الضفة الغربية التي تضم حوالي 650 ألف يهودي، والمخطط يعمل لرفع العدد إلى مليون ونصف المليون؛ عبر إقامة مستعمرات جديدة، ودعت بعض الدول للاعتراف بها..
كل هذه الخطوات التي اتخذت، سواء في أمريكا أو في الكيان الصهيوني، بدءاً من الإعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل إلى قرار ضم الجولان للكيان الصهيوني إلى قانون الدولة اليهودية.. ما كانت إلا خطوات تمهيدية في طريق تنفيذ صفقة القرن التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية..
وجاءت ورشة المنامة لتتوج هذه الصفقة بالشق الاقتصادى ليبتلع الشق السياسي المزمع الإعلان عنه بعد ذلك. وأيا كانت تفاصيلها التي لم يعلن عنها حتى الآن إلا من خلال تسريبات تطالعنا في وسائل الإعلام كل حين، فإن الصفقة تكرس الاحتلال الصهيوني في الأرض الفلسطينية وضياع الحق الفلسطيني، ولن يقبلها أي فلسطيني أو عربي حر. فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يأتي الجانب الاقتصادي للفلسطينيين على حساب مشروعهم الوطني ونيل حقوقهم في إقامة دولتهم المستقلة، بل العكس هو الذي ينبغي أن يكون.. الجانب السياسي يجب أن يسبق الجانب الاقتصادي، ومن رحمه تكون الاستثمارات والمشروعات والرفاهية الاقتصادية للمواطن الفلسطيني..
وهنا يحضرني قول الشاعر الراحل "أمل دونقل" في قصيدته الشهيرة "لا تصالح":
أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى
وهذا ما لم تفهمه أمريكا وتعتقد أن الفلسطينيين سيفرحون بالحوافز الاقتصادية كبديل عن الدولة المستقلة التي يطالبون بها كشرط لأى مفاوضات سلام دائم مع الصهاينة، وإن كان هناك تسريب صوتي لوزير الخارجية الأمريكية "بومبيو" نقلته مؤخراً جريدة "واشنطن بوست" يقول فيه: "خطة السلام الأمريكية لصالح إسرائيل ولا نضمن حل الصراع الخطة، في نهاية المطاف قد يتم رفضها". إذن، الأمريكان يخشون من فشل خطتهم أونقل مؤامرتهم؛ لأنهم يدركون أنهم مقدمون على جريمة نكراء؛ رغم انبطاح الحكام العرب الصهاينة وهرولتهم لتمريرها!!
إن "ورشة المنامة" سقطت في مستنقع الخزي والعار، ولن تخرج منه أبداً مثلها مثل كل مؤتمرات العار التي سبقتها للتطبيع مع العدو الصهيوني فكان مصيرها مزبلة التاريخ. ولن تمر "الصفقة المُحرمة"، فلا يزال في الأمة نفس ينبض ويرفض التنازل عن أرض فلسطين التاريخية، ومقاومة في غزة تكشر عن أنيابها، لا ترضخ ولا تساوم على وطنها فلسطين، ولا سلام سيحدث دون نيل الشعب الفلسطيني كامل حقوقه وإقامة دولته الحرة المستقلة..