أثارت العلاقة بين الدين أو الإيمان والمعرفة، ولا تزال تثير جدلا في الأوساط العلمية والسياسية، ليس فقط في جانبها العلمي المباشر، وإنما أيضا طالت حتى الجوانب التاريخية.
ولم يقتصر الجدل على الساحة الإسلامية، وإنما طال الأمر مختلف الديانات المسيحية واليهودية. هذا هو المبحث الرئيس لكتاب "فلسطين والشرق الأوسط بين الكتاب المقدس وعلم الآثار" للمؤرخ السويدى هانس فوروهاغن وترجمه عن اللغة السويدية الكاتب والمترجم سمير طاهر، و صدر في القاهرة عن الكتب خان للنشر.
يقع الكتاب في 319 صفحة من الحجم المتوسط، محور الكتاب، هو، "التضاد بين الإيمان والمعرفة، بين حكايات الكتاب المقدس ومكتشفات علماء الآثار" (ص 16)، وقد استغرق تأليف هذا الكتاب "خمس سنوات" (ص 11). وصدر الكتاب باللغة السويدية فى 2010، تحت عنوان (Bibeln och Arkeologerna) (الكتاب المقدس وعلماء الآثار).
وعلى الرغم من أن الكتاب في لغته الأصلية قديم نسبيا، إلا أنه يمثل وثيقة علمية وتاريخية، من شأنها أن تلقي الضوء على واحدة من أهم بؤر الصراع في العالم، وتكشف جانبا مهما في القضية الفلسطينية، التي تعتبر القضية الأبرز والأهم في منطقة الشرق الأوسط، والعالم.
ينقسم الكتاب إلى عدة عناوين رئيسية، هي: "الكتاب المقدس"، و"العهد القديم"، و"رواد علم الآثار"، و"أرض الميعاد"، و"الاسرائيليون"، و"الفلسطينييون"، و"داود وسليمان"، و"منظور أوسع"، و"هيكل أورشليم"، و"حائط المبكي"، و"لفائف البحر الميت"، و"حركة يسوع"، و"معركة أورشليم".
أساطير وليست تاريخا
تتناول هذه المقالة أهم النقاط الواردة في الكتاب، والتي تلخص في مجملها التساؤلات التي تثار حول علاقة الدين بالمعرفة.
ينطلق فوروهاغن، من أن "كثيرا من قصص الكتاب المقدس هي أساطير أكثر منها تاريخاً" (ص 18). ويتوصل إلى أن "الأشخاص الرئيسيين في هذه القصة المتصلة في أول التوراة هم نسل نوح، وفي مقدمتهم الجد الأول إبراهيم وولده إسحاق وولده يعقوب. ومعظم هذه القصة أساطير كان مراد منها أن تشرح أسماء تضاريس وطقوس دينية وتقاليد اجتماعية" (ص 21). ويلقي الضوء على جولة المؤرخ اليوناني، هيرودوت، الذي لقب بأبي التاريخ، فيقول: "يحكي هيرودوت بالتفصيل عن جميع الأشياء اللافتة في وادي النيل، لكنه لا يقول شيئاً عن تاريخ فلسطين، ولا يذكر أي شيء عن الكتاب المقدس العبري وقصصه" (ص 31).
كثير من قصص الكتاب المقدس هي أساطير أكثر منها تاريخاً
ويضيف: "لقد جعلت النصوص الهيروغليفية من الممكن وضع ترتيب زمني موثوق لتاريخ مصر في العصور القديمة. ولكن هذا الترتيب الزمني لا يتطابق مع قصص العهد القديم. فلا وجود في أي من المواد الكتابية المصرية لشيء يدلنا على يوسف وأخواته، ولا ذكر في أي مكان منها لموسى وهارون ويشوع الذين قادوا اليهود الثائرين في رحيلهم من مصر. والملكان القويان داود وسليمان، اللذان يفترض أنهما كان لهما قصران في أورشليم، غائبان بشكل صارخ" (ص 45).
علم الآثار والسياسة الدولية
يشير فوروهاغن إلى أن "الجيل الأول من علماء الآثار الذين نشطوا في فلسطين كانوا على يقين بأن تنقيباتهم ستعطي الدليل على أن الكتاب المقدس على حق. لقد كانوا يحفرون بالمجرفة في يد والكتاب المقدس في اليد الأخرى. ولهذا كانوا يفسرون القطع الأثرية التي يعثرون عليها بما يتفق ونصوص الكتاب المقدس" (ص 63). لقد كان علم الآثار في فلسطين، "متأثراً، وأحياناً محكوماً، بالسياسة الدولية والسياسة القومية" (ص 63).
يحدثنا فوروهاغن، عن تقاسم "القوى العظمى للقرن التاسع عشر فيما بينها أعمال التنقيبات في فلسطين" (ص 68). ولكن أضحت فلسطين مشكلة ذات خصوصية، فقد بدأ "الصراع بين الإيمان والمعرفة" (ص 70).
وحول قصص الآباء، وتحديداً إبراهيم يقول: "في واقع الأمر هذا ليس تأريخاً وإنما أسطورة وحكاية" (ص 74). ويدحض فكرة وجود "بني إسرائيل في مصر"، ويرفض فكرة "خروج بني إسرائيل من مصر" فيقول: "لا توجد في سيناء أية آثار أركيولوجية لموسى ومئات الآلاف من أتباعه اللاجئين من مصر" (ص 78). رغم أعمال البحث المكثفة طوال السنين المائة والخمسين الأخيرة "بكل بساطة، لا وجود لأية إشارة مصرية مكتوبة عن موسى ولا عن خروج اليهود من مصر" (ص 79).
وحول نظريات استيطان بني إسرائيل في فلسطين يقول: "كل هذه النظريات تنطلق من مصادر كتابية فقط" (ص 82). ولا يؤكدها علم الآثار. ويؤكد أنه "لا وجود هنا لأية آثار أركيولوجية للفاتحين (يشوع)" (ص 89).
احتيال علمي
ويرفض فوروهاجن، ما توصل إليه ييجائيل يادين، من تنقيباته في المسادا، من أنه عثر على "هياكل عظمية لمكافحين يهود من أجل الحرية" (ص 91). ويقول: "الحقيقة أن الاعلان كان احتيالاً علمياً لغرض الحصول على مكسب سياسي" (ص 92). ويشير إلى أن بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية، شرع الآثاريون في إسرائيل بتنفيذ جرد أثري شامل لتلك الأجزاء من فلسطين". وجاءت نتيجة الجرد مفاجئة، فعلى هذه التلال، نمت خلال القرن الثاني عشر ق. م شبكة كاملة من القرى "لم تكن لديها أسوار دفاعية ولا معابد. ولم يعثر فيها على أية أسلحة، ولا أي خزف مستورد، ولا أدوات زينة ولا أية وثائق مكتوبة. كانت القرى فقيرة ولكن جيدة الإعاشة، وكانت ثقافتها المادية هي نفسها في بقية أرض كنعان" (ص 95).
المباني الضخمة في مجدو التي نسبت إلى سليمان كانت قد أنشئت بعد نصف قرن من الوقت المفترض لموت سليمان
ويستنتج "أن حكاية داود وجليات هي أسطورة من أساطير الدعاية الموجهة (بروباغندا)" (ص 110). يذهب فوروهاغن إلى أن "الآثاريين لم يعثروا حتى على نقش إسرائيلي واحد عن نصر عسكري أو عن بناء هيكل مما يمكن أن يقوي الرواية الإنجيلية حول مآثر داود وسليمان ونجاحاتهما الباهرة، كما لا توجد أية بقايا لنصب تذكارية كان يمكن ـ بالتأكيد ـ تأريخها إلى حقبتها السياسية، لا في القدس ولا في أي مكان آخر من فلسطين" (ص 142).
يقول فوروهاغن: "إن المباني الضخمة في مجدو التي نسبت إلى سليمان كانت قد أنشئت بعد نصف قرن من الوقت المفترض لموت سليمان" (ص 150). وبذلك "تكون دراسات الكتاب المقدس قد خسرت الشهادة الأركيولوجية الوحيدة على وجود دولة عظمى حكمها ــ وفقاً للكتاب المقدس ــ داود وسليمان" (ص 150).
دعاية قومية
ويشير فوروهاغن، إلى أن "سفري الملوك وسفري أخبار الأيام ليست وصفاً موضوعياً للوقائع على أرض فلسطين خلال خمسمائة سنة" (ص 163). ويذهب إلى القول: "في الحقيقة لا يوجد أي مبرر أركيولوجي لوضع ترتيب زمني خاص لأورشليم ينطلق من إنشاء مبني لا نعرف شيئاً عن زمن ظهوره. إن هذه المفاهيم ليس لها دافع علمي، وإنما هي تنتمي إلى الدعاية الموجهة الدينية والقومية" (ص 182).
ويضيف: "إن وصف الكتاب المقدس هو الوثيقة الوحيدة التي لدينا عن "هيكل سليمان" فالمبنى لا وجود له في حوليات الملوك الآشوريين أو البابليين، ولا وجود له في النقوش التي عثر عليها في أنحاء مختلفة من "الأراضي المقدسة". كما لا توجد أية مكتشفات أثرية تشير إلى هيكل كبير قد وجد في أورشليم خلال القرن العاشر ق.م" (ص 187).
ويؤكد "أن تسمية المنطقة الأثرية في Ophel Hill في الوقت الحالي بمدينة داود لا يسنده علم الآثار، بل هو تعبير عن أمنية قومية ـ أو ربما حتى عن مطمح سياسي؟" (ص 220). وحول الأبراج التي كانت تحيط بقصر هيرودس الفخم يقول: "وفي مفارقة أو كذبة تأريخيتين صارت هذه الأطلال تسمى برج داود" (ص 220).
وبالرغم من محاولة فوروهاغن التحرر من قبضة خطاب الدراسات التوراتية، إلا أنه مازال حبيس هذا الخطاب في بعض صفحات هذا الكتاب، ويظهر هذا جلياً فيما ذكره من أنه "كانت توجد في فلسطين منذ نهاية القرن الثالث عشر ق.م مجموعة سكانية دعتها سلطة الاحتلال المصري إسرائيل" (ص 100). وذلك بناء على تفسير متداول "مغلوط" للوحة مرنبتاح 1210 ق.م، حيث يذهب إلى أن اسم "إسرائيل" قد ورد في اللوحة ويعني بالإشارة الهيروغليفية سكان الريف" (ص 97).
تسمية المنطقة الأثرية في Ophel Hill في الوقت الحالي بمدينة داود لا يسنده علم الآثار، بل هو تعبير عن أمنية قومية
ويضيف: "إن الناس في مصر كانوا يفرقون بوضوح بين القرى الإسرائيلية والمدن الكنعانية" (ص 97). وهنا يُطرح هذا التساؤل على فوروهاجن، هل قراءة علماء اللغة والآثار كلمة إسرائيل في النقش صحيحة؟!
وأيضاً استمرار ترديد مقولة الكتاب المقدس، من "شعوب البحر"، يقول ان الفلستيين "استخدموا ما يعرف بالكتابة القبرصية ـ المينوية التي كانت تتناسب مع لغة هندو أوروبية". "إن الثقافة المادية للفلستيين كانت مختلفة بشكل جلي عن ثقافة بني إسرائيل بل وكانت لها صلة قرابة بالحضارة في جزر وسواحل بحر إيجه". "إن الثقافة في مدن الفلستيين كانت في مستوى أعلى من الثقافة الموجودة لدى بني إسرائيل من صغار الفلاحين ورعاة الأغنام" (ص 135).
والحقيقة التي يجب أن يقرها فوروهاغن، أن "القول إن الفلسطينيين يمثلون شعباً غريباً متطفلاً على فلسطين، يجب إنكاره. التأثير الوارد من بحر إيجه جزئي، وعلى أساس البينات المعروفة كان هذا التأثير هامشياً وسطحياً في اللغة والديانة والأشياء المادية حتى في أقدم أشكال الفخار المدعوة فلسطينية. كانت ثقافة المنطقة الساحلية وطنية تماماً ويمكن القول إنها متأثرة بحضارة بحر إيجه لكنها سامية تماماً وذات طابع حضاري فلسطيني". (لمزيد من التفاصيل يُراجع أحمد الدبش، كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب، دمشق، خطوات للنشر والتوزيع، 2006).
رغم أننا لا نتفق مع كل المنطلقات النظرية للباحث التاريخي السويدي هانس فوروهاغن، أو مع بعض استنتاجاته التي وصل إليها بخصوص بعض جوانب التاريخ الفلسطيني القديم، إلا أن ذلك لا يمنعنا من إدراك أهمية بحثه.
*كاتِب وباحِث فلسطيني