هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
على بعد أمتار من ركام منزله يجلس الفلسطيني غالب أبو هدوان، شاردا بذهنه معظم الوقت، فالمنظر المؤلم هذا يخفي خلفه حكاية من تعب السنين التي قضاها في بناء مسكن يأويه وعائلته، بينما تجول في فكره الكثير من الصور القاتمة لمستقبل أطفاله الذين شُرّدوا في مقتبل أعمارهم.
يقول أبو هدوان: "بدأت ببناء منزل لي في منطقة واد الحمص جنوب شرق القدس قبل سنوات، وحين شارف البناء على الانتهاء سلم الاحتلال لي إخطارا بالهدم بحجة قربه من الجدار العنصري، ولكنني سكنته مع عائلتي ولم أتوقع أنهم سيقومون بهدمه كاملاً وأنني سأبيت في الشارع بعد هذه السنين".
ولم يجد أبو هدوان مكانا يأوي إليه إلا منزل عائلة زوجته في القدس المحتلة، ويعتبرون أنفسهم ضيوفا ثقيلي الظل إذا طال سكنهم هناك بينما لا يفتح لهم الأفق الكثير من الخيارات، فالاحتلال يمنع أهالي وادي الحمص من إعادة بناء منازلهم بعد أن نفذ أكبر عملية هدم جماعية في تاريخ القدس قبل عدة أيام.
ويوضح أبو هدوان لـ"عربي21"، بأن المنزل كانت مساحته 420 مترا مربعا قامت الجرافات الإسرائيلية بتسويته في الأرض خلال لحظات، ولم يفلح في منع الجنود من إخلائه وأطفاله الخمسة الذين طغت أصوات بكائهم على المشهد.
ويضيف: "كنا نتوقع اقتحامهم للحي في أي لحظة فلم نتمكن من النوم منذ فترة طويلة، وفي فجر الإثنين الماضي اجتاحوا المكان وكأنهم يخوضون حربا رغم أننا لا نملك سلاحا سوى بقائنا في أرضنا، وبعد دقائق فقط اقتحموا المنزل وبدأوا بإخلاء الأثاث منه ووضعه داخل الجرافة التي حملته وألقت به بجوار البيت، أما نحن فرفضنا الخروج ثم قاموا بحملنا وإلقائنا خارج البيت والأطفال كانوا في وضع مزرٍ ما بين صراخ وبكاء لا يعلمون ما جريمتهم ولماذا يُهدم منزلهم".
اقرأ أيضا: هكذا احتفل جيش الاحتلال بهدم منازل بالقدس (فيديو)
"المنزل هو حياتي، فإذا أردت هدمه أنت تهدم حياتي"؛ هذه الكلمات التي قابل بها أبو هدوان ضابط الاحتلال الذي جاء لإخراجه منه، ولكن آلة الهدم كانت تزيح كل شيء من أمامها، والآن يمضي معظم وقته بجانب الركام ينظر إليه وهو بلا حول ولا قوة.
أما عن حياتهم قبل الهدم، فيبين أبو هدوان، بأنها كانت مزيجا ما بين القلق والترقب في ظل تهديدات الاحتلال المستمرة؛ حيث خاض الأهالي معركة قضائية استمرت ثلاثة أعوام في محاولة لإقناع محاكم الاحتلال بحقهم في أرضهم والبقاء فيها، بينما كانت بلدية الاحتلال تعاقبهم طيلة هذه السنوات بحرمانهم من الخدمات الأساسية البسيطة كتعبيد الشوارع وجمع القمامة، وهو ما كانوا يقومون به بأيديهم لتسهيل معيشتهم.
ويتابع: "لجأنا إلى البناء في أراضينا في واد الحمص بسبب ما تقوم به بلدية الاحتلال من عقوبات على الفلسطينيين، حيث إذا تم البناء يصدرون قرارا بهدمه بحجة عدم الترخيص، أما نحن بناياتنا مرخصة فكانت الحجة قربها من الجدار، والآن لا نعلم ماذا يمكن أن نفعل ولكننا بالتأكيد لن نرحل".
معركة وجود
أما المواطن محمد أبو طير، فبدأ بتشييد بناية سكنية عام 2015 مكونة من تسعة طوابق، والآن يجلس بجانب ركام ضخم خلّفه تفجير الاحتلال لها بعد زرعها بالمتفجرات في مشهد عمّ وسائل الإعلام.
وبملامحه الغاضبة يواصل أبو طير تواجده في حي واد الحمص ليلا ونهاراً رغم أنه تحول إلى حي موحش بعد هدم منازله المكونة من 16 بناية تضم مئة شقة سكنية، ولكنه ما زال مصرّاً على إعادة بناء ما تم هدمه حتى لو التهمته الجرافات من جديد.
ويقول في حديثه لـ "عربي21"، بأن قوات الاحتلال كانت سلمته إخطارا بهدم بنايته عام 2016 ولكنه لم يكترث لذلك وواصل البناء، وفي عام 2017 أصدرت له المحكمة قرارا بوقف البناء ليجبر على ذلك بعد أن أنهى تجهيز طابقين للسكن فيها مع عائلته، حيث كانت تبلغ مساحتها 5600 متر مربع.
ويضيف:" منذ أن تم إصدار قرار الهدم ونحن نعيش حياة كالجحيم ولا نعرف فيها النوم، وفي كل ليلة ننتظر وصول الجرافات ونسهر حتى ساعات الفجر الأولى، وفي تلك الليلة اقتحموا منازلنا فتمددتُ على أرضية البيت رافضا الخروج منه؛ فقام الجنود بالهجوم علي وضربي واعتقالي وحملوني من المنزل حملاً أنا ومن معي وتهمتنا أننا لا نريد الخروج من بيوتنا، كان مشهدا من مشاهد النكبة الفلسطينية يعود من جديد والعالم يتفرج علينا دون أن يحرك ساكنا".
اقرأ أيضا: تواصل الإدانات الدولية لمجرزة منازل "وداي الحمص" بالقدس
وبعد ذلك بدأت قوات الاحتلال بزراعة المتفجرات في بناية أبو طير لمدة خمس ساعات، ومع غروب الشمس اهتز وادي الحمص من صوت الانفجار العنيف الذي تحطمت معه قلوب الأهالي وأنهى مرحلة من حياتهم تعبوا في الوصول إليها.
ويتابع: "لا يوجد لدينا خيار إلا إعادة بناء منازلنا لأنها معركة وجود نبقى أو لا نبقى وليست قضية بناء ومحاكم، وهدفهم هو تهجيرنا ولا يمكن أن نقبل بذلك، ونحن مصرّون على بناء ثلاثة بيوت بدلا من البيت الذي هدم وهذه رسالتنا لعدوّنا".
ويتجمع الأهالي في كل يوم على أنقاض المنازل ويحاول بعضهم استصلاح أجزاء من الأثاث، فيما تتصاعد بداخلهم أعمدة الحزن بعد أن تُركوا وحدهم يجابهون دولة بأكملها ومخططا عنصريا يهدف فقط إلى ترحيل الفلسطيني عن أرضه ثم الاستيلاء عليها.