قبل سنتين، وتحديدا في تموز/ يوليو 2017، تصاعدت حملة مُنظّمة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ تستهدف
الفلسطينيين وقضيتهم، وتدعو
السعودية للتطبيع مع "إسرائيل" والتخلّي عن الفلسطينيين، وترتكز في دعايتها على جملة عناصر؛ أهمها القول إنّ العدو الاستراتيجي (وربما الوحيد) للسعودية هو إيران وتوابعها، وأنّه لا مشكلة في الحقيقة بين السعودية و"إسرائيل" التي لا تهدّد الأمن السعودي، ولا "تحتلّ أربع عواصم عربية"، ولا تتدخل في الشؤون الخاصّة بالبلاد العربية.
لتعزيز هذه الدعاية، كان لا بدّ من الإلحاح على "طبائع الفلسطينيين"؛ من "نكران الجميل، والغدر، والطعن في الظهر"، وهو الأمر الذي يستدعي التذكير المستمرّ بما قدمته السعودية حكومة وشعبا للقضية الفلسطينية، ولا سيما في مجال الدعم المالي، وصولا إلى التذكير بالريال الذي كان يدفعه أطفال المدارس دعما للقضية الفلسطينية.
تزامنت تلك الحملة مع هجمة إسرائيلية على المسجد
الأقصى، توسّلت بتركيب بوابات إلكترونية بهدف تعزيز السيطرة عليه، وفرض وقائع ينبني عليها لاحقا ما يُعرف بالتقسيم المكاني للمسجد. ومن نافلة القول هنا إنّ قضية المسجد الأقصى على وجه الخصوص، والقدس بوجه أعمّ، كانت، ولم تزل، من أهم الأسباب التي تُفشِل الجهود الإسرائيلية في تكريس "إسرائيل" كيانا طبيعيّا في المنطقة.
والحال هذه، لا يمكن فصل هذه الحملة عن سياقها الظرفي، المتمثل لحظتها في الهجمة الإسرائيلية على المسجد الأقصى، وهي هجمة تُحرِج السياسات الجديدة التي أخذت تُعلن بالتدريج عن خطّة جديدة، غير مسبوقة في رؤيتها، لحلّ القضية الفلسطينية، وبما يتضمن تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، بل ودمج "إسرائيل" في المنطقة في إطار تحالف "شرق أوسطي"، وهو المصطلح الذي استخدمه البيان الختامي لقمة الرياض في أيار/ مايو 2017، أي قبل أقل من الشهرين من الهجمة الإسرائيلية المشار إليها.
نصّ البيان الختامي للقمّة التي جمعت، في حينه، في الرياض قادة وممثلي 55 دولة عربية وإسلامية بالرئيس الأمريكي ترامب على "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي"، وبدت التسمية مريبة، فالنصّ يتجاوز أن يكون هذا التحالف عربيّا خالصا. وكشفت السياسات لاحقا أنّه من غير الممكن أن تكون إيران ضمن هذا التحالف وقد أدانها البيان ذاته خمس مرّات، ثمّ كشفت السياسات أنّ تركيا كذلك مستبعدة، فلم يبق من الشرق الأوسط، من غير العرب، سوى "إسرائيل" لتكون جزءا من هذا التحالف!
كان لا بدّ، إذن، من العمل الدعائي على ثلاثة محاور، الأول سياسي يستند إلى المصلحة الخاصّة بالسعودية بنفي أي معنى للعداء مع "إسرائيل"، والثاني والثالث يبالغان في الدعاية، بحيث يصنع المحور الثاني فجوة بين الفلسطينيين والرأي العامّ السعودي بتصوير الفلسطينيين طرفا قديم الكراهية ودائمها للسعودية وأهلها، وتنميط الفلسطينيين وتعميم الرذائل عليهم، واستغلال أيّ مظهر فرديّ لتأكيد هذه الدعاية. وفي هذا المحور تأتي حكاية الدعم المقدّم لشعب لا ينكر الجميل فحسب، بل لا يستحق، لا سيما وقد "باع أرضه"!
وأمّا المحور الثالث، فيهتمّ بتجريد القضيّة الفلسطينية من قداستها الدينية. فالخطاب المصلحي، والخطاب المشوِّه للفلسطينيين؛ لا يكفيان لإعادة صياغة الرأي العامّ السعودي تجاه قضية مقدّسة؛ يتخذ المسجد الأقصى فيها موقعا متقدّما وفريدا، والمجتمع السعودي من أكثر المجتمعات العربية التي يدور في أوساطها نشاط دينيّ متعدد الاهتمامات. وقد استدعى ذلك تغييب الشخصيات العامّة المؤثّرة، ولا سيما الدينيّة منها، وإبراز شخصيات تتبنّي الدعاية الصهيونية تماما، بتأكيدها على "الحقّ الإسرائيلي الطبيعي والوحيد في فلسطين"، وعلى نفي أيّ قداسة أو خصوصية للمسجد الأقصى، مع الترويج لـ"إسرائيل" والشخصية الإسرائيلية بنحو مقارِن لتشويه الشخصية الفلسطينية والسعي لتحطيمها.
باتت السياقات السياسية التي أفرزت هذا الخطاب اللحوح الذي لم يتوقف حتّى الآن، واستقطب شخصيات جديدة.. واضحة وظاهرة، فالكلّ يدرك الشرط الإسرائيلي/ الترامبي في هذه اللحظة، والمصالح الجامعة بين "إسرائيل"/ ترامب وبين حكومات بعض الدول العربية، بيد أنّها تُذكّر بالإضافة إلى هذه السياقات بأمرين، أحدهما قريب، والآخر بعيد نسبيّا.
الأمر القريب، تصريحات بنيامين نتنياهو، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 التي هاجم فيها الرأي العام العربي، وأثنى فيها على الحكومات العربية، قائلا إنّ مشكلة "إسرائيل" كانت مع الرأي العام العربي، لا مع الحكومات العربية. جاءت هذه التصريحات تماما في ذروة تلك الحملة التي تسعى لإعادة صياغة الرأي العام السعودي تجاه القضية الفلسطينية بكلّ أبعداها، وهو ما لا يمكن النظر إليه وكأنّه محض مصادفة، فالتخطيط المشترك بلغ هذا الحدّ من التنسيق والتواصل والاستجابة حتّى في التفاصيل.
أمّا الأمر البعيد، فهو الدعاية الساداتية، بعد انسحاب مصر من الصراع مع "إسرائيل" باتفاقية منفردة مع هذه الأخيرة، وقد جرى تسويق ذلك بالهجوم على العرب، والرأي العام العربي، وعلى الفلسطينيين وقضيتهم، واختراع أساطير من قبيل الأثر المدمّر للقضية الفلسطينية على مصر تنمية واقتصادا، والحروب الأربع (قد تزيد أحيانا) التي خاضتها مصر لأجل الفلسطينيين "ناكري الجميل بائعي أرضهم". وللأسف، وحتى نفي المنزلة الخاصّة عن المسجد الأقصى، وإنّ جاء متأخّرا، فإنّه جاء من مصر، على لسان الروائي المصري يوسف زيدان الذي ردّد بالحرف ما قاله مؤرخ صهيوني يُدعى "مردخاي كيدار"، وبيّن في بعض التسريبات معه أنّ ترويج ذلك يأتي بترتيب مع "عبد الفتاح السياسي" للتخلّص من القضية الفلسطينية. جهود السيسي هذه التي اتصل بها زيدان مرتبطة تماما بالحملة التي نتحدث عنها.
الحملة المستمرة منذ أكثر من سنتين، والتي تهدف إلى إعادة صياغة الرأي العام السعودي تجاه القضية الفلسطينية، تعيد استنساخ الدعاية المصرية الساداتية، مع مزيد من الفجاجة، وسياقاتها الراهنة وأهدافها المستقبليّة واضحة تماما. وبهذا يمكننا فهم الاستهداف المستمرّ في الآونة الأخيرة للمسجد الأقصى ومنزلته عند المسلمين، لكن يمكن لنا الآن أن نتأكد من أن هذه المنزلة يستحيل الحطّ منها، وأنّها من أهم ما يحمي هذه القضية ويحصنها، ويجعلها من أهمّ مكوّنات عمق الوعي العربي والإسلامي.