بنفس الرؤية النقدية، يضع الباحث والناقد المغربي سعيد يقطين كل المفاهيم الثقافية الرائجة في مشرحة النقد، وينتقد بشدة السياسات الثقافية السائدة في العالم العربي، ويرى أنها لا تشتمل على مقومات السياسية ولا العمومية، لأنها في نظره تفتقد لرؤية استراتيجية تستحضر المشروع المجتمعي الذي تتطلع لبلورته وصياغته. فما تم في الماضي تنسفه نخب الحاضر التي بدورها لا تطرح في خياراتها أي تصور للمستقبل. وإنما تسقط في مواقع إنتاج الرداءة والهجانة الثقافية التي لا تحمل أي مضمون نهضوي.
كما أن المشاريع الثقافية التي تحاول أن تتزيى بلبوس الأصالة أو المعاصرة، التنوير أو التقليد، تنطلق نفسها من ذات الازدواجية والنفاق الثقافي، ولا تتأطر بأي رؤية معرفية جادة، وإنما تخضع ممارساتها لاعتبارات السياسة وتحولاتها، فتجد الحداثي ـ حسب يقطين ـ في بعض ممارساته موغلا في التصالح مع الخرافة والتقليد، وتجد الأصولي المنشد للتراث موغلا في تبني آخر التقلعيات الغربية من غير رؤية معرفية ناظمة.
في الحلقة الثانية من الحوار الذي أجراه الكاتب والإعلامي بلال التليدي خصيصا لـ "عربي21"، يضع المفكر المغربي سعيد يقطين سؤال النقد على كل المفاهيم الرائجة في التداول الثقافي العربي، ليس بقصد النقض أو مجرد الترف الفكري، وإنما يضبطه في ممارسته النقدية هم ثقافي يحاول أن يؤسس لاستراتيجية ثقافية عربية تقوم على رؤية معرفية قادرة على الحسم في إشكالات الماضي والحاضر واستشراف المستقبل ومواجهة تحدياته.
"عربي21" ـ ثمة أكثر من سياسة عمومية تؤطر الحقل الثقافي، سياسات تشتغل على التراث لكن بمنحى فلكوري، وسياسات أخرى تحاول أن تخلق نوعا من التكيف والتوافق بين الألوان الثقافية التراثية والغربية ولو بتعسف، وسياسات تحاول تسييس التراث عبر إحياء التصوف وتعابيره الفنية المختلفة ولو بدمج المحلي بالعالمي، وسياسات أخرى، تنحو لتكريس التقليد في بعده الخرافي، إلى ماذا ترمز هذه المشاهد المتباينة في الحقل الثقافي؟ هل هي دليل تنوع وثراء أم هي إرادة لقتل المعنى في الثقافة؟
ـ سعيد يقطين: أولا، لا أعتبر أن هناك سياسة عمومية ما. هناك ممارسات لا سياسية ولا عمومية هي التي تشتغل في المجال الثقافي. إن كلمة سياسة تعني رؤية استراتيجية تبنى على تحليل ملائم للواقع، وتعمل على تحويله نحو الأفضل من خلال ترجمته إلى ممارسة تجعله أحسن مما كان عليه. وحين تأتي كل سياسة جديدة، ويكون في خلفيتها التصور الذي حددناه للسياسة تعمل على نقل ما أنجز إلى ما هو مفتوح على المستقبل. وبذلك يحدث التراكم الذي تبدو نتائجه مع الزمن، فتتطور السياسة ويتغير الحقل الذي تشتغل به.
ما يمارس عندنا، فليس سوى تعبير عن أمزجة قابلة للتغير في أي وقت، ولذلك، نجد هذه الممارسات، وإن طال الزمان، تتكرر بنسخ رديئة عن الصيغة التي قدمت لأول مرة.
إن الممارسات اللاسياسية واللاعمومية التي أتحدث عنها، تتجلى في كون من يأتي إلى أي منصب في أي قطاع يطوي صفحة من سبقه، وقد تكون فيها أحيانا بعض المكتسبات التي تحققت فيعمل على طمسها كلها، والبدء من الصفر. إنها سياسة من يفكر في الجواب الذي يفرضه عليه اليوم الذي يوجد فيه، ولا يعنيه ما وقع بالأمس، أو ما سيجري غدا. وحين لا يطرح عليه أي سؤال في يوم ما فهو في حل من أي عمل. لا يمكن اعتبار ما يمارس سياسة عمومية. السياسة العمومية رؤية ومشروع اجتماعي في أي مجال أو قطاع. أما ما يمارس عندنا، فليس سوى تعبير عن أمزجة قابلة للتغير في أي وقت، ولذلك، نجد هذه الممارسات، وإن طال الزمان، تتكرر بنسخ رديئة عن الصيغة التي قدمت لأول مرة.
حين نتحدث في المستوى الثقافي، لا يمكننا سوى التسليم بالتنوع والتعدد الثقافيين في المغرب، وفي الوطن العربي. كما أنه يمكننا الحديث عن ثقافات متعددة بتعدد الوسائط التي يعرفها المجتمع. وكلها قابلة للتعايش والحوار والحضور إذا ما كانت ثمة رؤية جماعية مؤسسة على التفاعل الإيجابي بين مختلف مكوناتها.
أشار سؤالك المهم إلى تجليات وممارسات يعبر كل منها عن أسئلة حقيقية لم نفكر فيها بالشكل الملائم، وتركناها حتى صارت هاجسا مؤرقا، فصرنا نعمل على تقديم أجوبة مبتسرة عنها، إرضاء للخواطر كلها. ولم يكن لذلك من نتيجة سوى الهروب من التفكير في الأجوبة الملائمة عن الأسئلة الضرورية. وأي هروب من هذا النوع من الأسئلة، لا يمكنه سوى أن يجعل تلك الأسئلة أكثر إلحاحا مع الزمن، وفي كل زمن يتم "الاجتهاد" في تقديم الجواب الذي ليس سوى تعبير عن ممارسة لا سياسية ولا عمومية.
تمثيل لروح الشعب
لنرتب التجليات التي طرحتها، ولنختزلها فيما يلي: فهناك أولا: السياسة التراثية والفلكلور. حين لا تكون عندنا رؤية دقيقة للتراث الشعبي تبرز في التعامل معه باعتباره جزءا لا يتجزأ من
الثقافة الوطنية، لا يمكن سوى العمل على تسخيره في مناسبات معينة، تماما كما يحصل عندما يستضاف فريق رياضي لإجراء مباراة ودية! التراث الشعبي تمثيل لروح الشعب، وبدون تطوير الفضاءات والأزمنة التي تقام فيها كي تتماشى مع العصر ومتطلباته، تبقى فرجة عابرة توظف لغايات انتخابوية بالدرجة الأولى والأخيرة. ويمكن قول الشيء نفسه عن النقطة الثانية في سؤالك، وهي سياسة الهجنة الثقافية (دمج التراثي بالغربي).
إن غياب دراسات عن الموسيقى الشعبية وتاريخها وعدم الاهتمام بتوثيق التجربة الموسيقية الشعبية لا يعني دمجها مع ما يمكن أن تقدمه فرق موسيقية أجنبية سوى التعبير عن هجنة لا يمكنها أن تؤسس لممارسة فنية جديدة قابلة للتطوير. وبذلك تظل لعبة عابرة تقوم على تجريب تفرضه رؤية تدعي الانفتاح على الفن العالمي. ولا تختلف ممارسة تسخير التراث الصوفي بدعوى التسامح الديني والانفتاح على الآخر.
التراث الشعبي تمثيل لروح الشعب، وبدون تطوير الفضاءات والأزمنة التي تقام فيها كي تتماشى مع العصر ومتطلباته، تبقى فرجة عابرة توظف لغايات انتخابوية
وأخيرا، فإن سياسة تكريس الخرافة هي التجلي الأكبر الدال على كون كل التجليات والممارسات السياسوية التي تحدثنا عنها، ليست سوى تعبير عن رؤية سياسية غير وطنية ولا عمومية. وأي سياسة تقوم على التسخير لفائدة اللحظات العابرة سواء كانت انتخابية، أو للإلهاء، أو استجابة لسياق يقتضيه: دعوى الانفتاح والتسامح وحوار الأديان، لا يمكنها أن تخدم التراث الشعبي في جوانبه المختلفة.
في غياب الاهتمام بالثقافة الشعبية، ودراستها علميا، لا يمكن سوى استثمارها لأغراض لا تخدم التنمية ولا الثقافة. وأي دعوى تتم باسم التجديد والانفتاح، وما شابه، ليست سوى عناوين لممارسة تقوم على التجريب والتسخير.
ثنائية ساذجة ومضللة
"عربي21" ـ التحديث والتنوير ومقاومة التقليد في بعده الخرافي واللاعقلاني مطالب حيوية في أي خطاب نهضوي، لكن ثمة اليوم خطابات كثيرة تتبنى هذه العناوين، لكنها في العمق تميل إلى أشكال هجينة تتصالح مع التقليد وتدعمه، وأحيانا تنقلب إلى أداء وظائف ضد عناوينها، كيف تقيم خطابات التنوير والتحديث في المشهد الثقافي؟ وهل ثمة تسييس لهذه العناوين؟
ـ سعيد يقطين: ثنائية الأصالة والمعاصرة، والتقليد والتحديث، والعقلاني والخرافي في الأدبيات العربية المختلفة ثنائية ساذجة ومضللة. وأعتبرها مثل لعبة طوم وجيري. تظل الثنائية قائمة، وفي كل زمان، توظف بكيفية تبين أننا لم نفهم أيا من المفاهيم التي نستعمل. إن إفراغ كل محتويات هذه المفاهيم من دلالاتها الحقيقية، أي المعرفية لم يؤد إلا إلى الاختزال والتعميم، من جهة، وإلى التوظيف حسب مقتضيات السياسة في تحولاتها وتبدلاتها.
منذ أن طرحت هذه الثنائية فيما يتعارف على أنه عصر النهضة العربية، لم نعمل على تحديد المقصود بالأصالة، أو التحديث. كان الاصطفاف السياسي والإيديولوجي وراء تبني هذا المفهوم أو ذاك، ولم يتم التفكير عمليا وتنظيريا في كيفية أن نكون معاصرين أصلاء، أو أصلاء معاصرين؟ ولم تتحقق أي إنتاجات فكرية أو معرفية تتعامل مع طرفي الثنائية بالشكل الذي يقيم الحدود بينهما، أو يفتح الجسور بينهما على الشكل الملائم. ظل متبني أي تصور من التصورين إما متشبثا بآراء تقليدية، لا اجتهاد فيها حول التراث والأصالة. تماما كان المدافعون عن الحداثة يكتفون باختزال مقولات وشعارات من الفكر الغربي دون تدقيق في فهم تطور الأفكار السياسية والثقافية، فيكون ترديد مفاهيم مثل الحرية والعقل والعقلانية على سبيل الاستهلاك.
كانت دعوى التخوف من الاستيلاب للآخر الغربي، والخضوع له إذا ما كان تبني أطروحاته حول الحداثة لدى الطرف الأول بمثابة تحصين الذات، ودفاعا عن الخصوصية والهوية. وفي المقابل، كان هدف تبني الحداثة متضمنا الهجوم على التراث والتاريخ بدعوى عدم التلاؤم مع العصر. مر على طرح هذه الثنائية في الفكر العربي أكثر من قرن من الزمان، ولم يتم الحسم بشكل قاطع لفائدة أحدهما على حساب الآخر. فكيف يمكننا تفسير استمرار تلك الثنائية كل هذه المدة ولم يتغير أي شيء؟
جوابا على هذا السؤال أرى أن الدفاع عن إحدى الأطروحتين عمليا لم يكن سوى للاستهلاك والترويج وممارسة التجاذب مع الطرف النقيض. إن الهجنة هي ما يطبع التصور العام المشترك. فالمتحدث عن التقليد تجده أكثر تشبثا واستهلاكا لكل منجزات الحداثة الغربية رغم رفضه نظريا لكل خلفياتها الفكرية التي كانت وراء تحققها. والمدافع عن الحداثة تراه في الممارسة اليومية أكثر تمسكا بالتقاليد والخرافات والسلوكات المتعارضة مع العقل والعقلانية.
لم يكن من نتائج هذه الهجنة العامة سوى ازدواج الخطاب، أي نفاقيته، وعدم انسجامه، وعلى المستويات كافة. فالسياسي سواء كان حداثيا أو تقليديا تراه ذرائعيا وهو يدافع عن مصلحة سياسية ما يدافع عنها في سياق معين. ولما كانت ذرائعيته غير مؤسسة على قناعة فكرية ثابتة، تجد ممارساته تقوم على التناقض الذي يمكن أن يبرره بأتفه الأمثلة وأبسطها. ويمكن قول الشيء نفسه عن المثقف الحداثي فهو يدافع عن حرية المرأة، وعن العقلانية، وفي الوقت نفسه، تجده على مستوى الممارسة ضد كل الشعارات التي يتبناها. والأمثلة لا حصر لها.
ما دامت الإيديولوجيا هي التي تحدد قواعد اللعبة، ولا نولي للبحث العلمي ما يستحق من العناية في واقعنا العربي ستظل الهجنة هي السائدة في النظر والعمل
إن الهجنة الثقافية والسياسية تجعل التفريق بين الممارسة والنظرية غير ذات تصور محدد لما ينبغي أن تكون عليه الأشياء. ولذلك، فالخطاب الفكري والسياسي في الوطن العربي مراوغ، ولا يمكن تبعا لذلك أن نجد له منطقا معينا. انظر مثلا إلى الأنظمة السياسية العربية، فلا تجد بينها فروقات جوهرية، وهي تتعامل مع شعوبها، ومع القضايا الحيوية التي تهم الإنسان العربي، ولا تستطيع التمييز بينها في أخذها بأسباب طرف ما من تلك الثنائية. الهجنة سمة جامعة يتم فيها توظيف العقلاني والخرافي، في آن واحد متى كان ذلك يخدم السلطة، وقس على ذلك في كل الممارسات والتجليات المتصلة بها. ففي أقصى درجات الحداثة نجد التقليد، والعكس.
وليس لذلك من تفسير سوى أننا نمارس السياسة بدون رؤية فكرية تم تشكيلها من خلال البحث العلمي. وما دامت الإيديولوجيا هي التي تحدد قواعد اللعبة، ولا نولي للبحث العلمي ما يستحق من العناية في واقعنا العربي ستظل الهجنة هي السائدة في النظر والعمل. وسنظل نتابع لعبة طوم وجيري ونضحك على أنفسنا في الوقت الذي نجد الأمم والشعوب التي تجاوزت التصارع حول تلك الثنائية قد أوجدت لها الطريق الذي مكنها من دخول العصر الحديث، وهي على صلة وطيدة بماضيها، ومتطلعة إلى المستقبل برؤية واثقة من إمكان فرض مقوماتها الشخصية وثقافتها على المستوى العالمي.
إقرأ أيضا: مفكر مغربي: هيمنة السياسي وراء تراجع المنتوج الفكري العربي