هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يواصل الكاتب والباحث العربي الدكتور غازي التوبة في الجزء الثاني من قراءته لكتاب أستاذ علم الاجتماع بجامعة السوربون الدكتور برهان غليون، "عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل، سوريا 2011-2012"، ويرى أن غليون الذي ترأس المجلس الوطني السوري مطلع الثورة السورية، ولامس عن قرب المشهد السياسي السوري الذي رافق بدايات الثورة، أحسن في التأريخ للثورة السورية وتشخيص أطرافها، لكنه أخطأ بحق الحكم على الإسلاميين ودورهم في هذه الثورة، ويشرح ذلك كالآتي:
قوة الإسلاميين
من العناوين التي أطلقها الدكتور برهان غليون في كتابه "قوة الإسلاميين"، وأشار إلى أن هذه القوة تأتي من كتاب مقدس، وحضارة ممتدة، ورموز تاريخية، ويردفها في العصر الحاضر تجربة الإسلاميين في الجهاد في بعض الساحات كساحة أفغانستان. لكنه حاول أن يهوّن من هذه القوة بأن الإسلام يمكن أن يفهم على ثلاثة معان:
الأول: وهو الإيمان بجملة العقائد والمقدسات التي تشكل مصدر إلهام للفرد، ويقوم عليها نمط من العبادات والمعاملات التي ينجم عنها تكوين جماعة سماّها "جماعة الإيمان".
والمعنى الثاني: وهو المعنى السياسي، الذي يتجاوز المعنى القرآني، ويعنى بعلاقة "جماعة الإيمان" مع الجماعات الأخرى، وقد اعتبر الدكتور برهان غليون في هذه الفقرة أن الإسلام السياسي هو مذهب في إدارة الدولة، وليس عقيدة أو جزءاً من عقيدة دينية.
والمعنى الثالث: هو المعنى الاستراتيجي الذي يحدد علاقة الدولة الإسلامية أو جماعة المسلمين بالدول الأخرى.
لم يقبل العلمانيون في تونس الإسلاميين إلا بعد أن قدّموا تنازلاً أيدولوجياً،
واعتبر الدكتور برهان غليون أن التمييز بين المعاني المختلفة للإسلام ضروري لبلورة تعريف دقيق للأسلمة نفسها، لكنّه تجاهل أو جهل أن المعاني الثلاثة تجتمع في مفهوم واحد وهو مفهوم "الأمة الإسلامية" التي امتدت قائمة على مدى أربعة عشر قرناً، وهي ما زالت قائمة إلى اليوم، وهي التي واجهت التغريب على مدى قرنين، وطردت جيوش المحتلين المستعمرين، في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وهي التي واجهت الطغاة المستبدين ذوي الانتساب القومي والاشتراكي، وتصارعت معهم، وقدّمت ملايين الضحايا في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، والأصل كما قلت إن المعاني الثلاثة منضوية في مفهوم "الأمة الإسلامية" التي ينتمي إليها "المسلم الفرد" حيثما كان، وهو ما بناه الإسلام في مفهومه الشامل لمعالجة كل جوانب الحياة من فكرية وثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية إلخ..، وهو ما جاءت العلمانية العربية المعاصرة لتحاربه، وكان على رأسها علي عبد الرازق في كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، والذي أعلن فيه أن الإسلام إيمان ودعوة فقط، وأن الإسلام لا حكم فيه، وأن الحكم من اختراع المسلمين.
الإيمان الإسلامي
يشير الكاتب إلى دور "الإيمان الإسلامي" في حماية الفرد المسلم في سوريا وفي المحافظة على ذاته وهويته، وفي إعطائه الصبر والقدرة على التحمل، ووجود الأمل بالانتصار، في مواجهة الإجرام الأسدي، الذي قام على وضع المجتمع السوري في رعب كامل من خلال أجهزة المخابرات الأربعة عشر التي وضعها رقيبة على كل تصرفات الأفراد، والتي ربط كل معاملات الفرد بها، من أصغرها إلى أكبرها، وأنهى كل حياة مدنية ذات مؤسسات خاصة، وعطّل الحياة السياسية وجعلها مرتبطة بشخص الرئيس وأسرته.
لقد بيّن الكاتب دور الإيمان الفردي في انتشار بعض المظاهر الإسلامية في سوريا خلال الأربعين سنة الماضية، مثل: توسع ظاهرة ارتياد المساجد عند الشباب، والانتشار الواسع لظاهرة حجاب المرأة، وتحكيم الدين في العلاقات الاجتماعية بدلاً من العادات.
لكن الكاتب يعود فيخطّئ الإسلاميين عندما يعتبرون أن مثل هذه العودة إلى المظاهر الدينية هي تعبير عن تمسك الجمهور بالقيم والتطلعات الدينية كما تبلورها التيارات السياسية الإسلامية.
لا أدري لماذا يخطّئ الدكتور برهان الإسلاميين في تصورهم ذاك ووضعهم تلك الأحداث في مساقهم الذي يدعون إليه؟ أليس الحجاب وأداء الصلاة وإقامة الأحكام الشرعية وإقامة الدولة من أوامر الإسلام وواجبات المسلم؟ ليس من شك بأنها تنبع من مشكاة واحدة، وهي مشكاة الإسلام الذي يعالج أمور الدين والدنيا في وقت واحد.
يشير الكاتب إلى دور "الإيمان الإسلامي" في حماية الفرد المسلم في سوريا وفي المحافظة على ذاته وهويته، وفي إعطائه الصبر والقدرة على التحمل، ووجود الأمل بالانتصار، في مواجهة الإجرام الأسدي،
ثم قفز بعد ذلك وقرر أنه لا يوجد تناقض بين الإسلام بالمطلق والعلمانية بالمطلق وإنما هو فقط بين الإسلاميين والعلمانيين، وهذا الكلام غير سديد فهناك تناقض بين الإسلام والعلمانية، وهناك تناقض بين الإسلاميين والعلمانيين، أما التناقض بين "الإسلام والعلمانية" فهو من أوضح الواضحات في الأصول وعشرات المجالات، وإن اتفقا على استخدام العقل واحترامه، ومن الطبيعي أن يكون اختلاف بين "الإسلاميين والعلمانيين"، ومن الممكن تجميد هذا الاختلاف واحتفاظ كل طرف بأيدولوجيته والتعاون لمصلحة الانتصار في مواجهة الاستعمار الغربي والصهيونية والحكام المستبدين، لكن العلمانيين يرفضون هذا التجميد، ويرفضون التعاون إلا إذا تنازل المسلمون عن جانب من أيديولوجيتهم.
وأما استشهاده بتجربة "النهضة" في تونس فيؤكد ما ذهبت إليه فلم يقبل العلمانيون في تونس الإسلاميين إلا بعد أن قدّموا تنازلاً أيدولوجياً، فقد اعتبرت "النهضة" أنه لا يوجد تعارض بين "الإسلام والعلمانية"، وقد عبّر راشد الغنوشي عن هذا الموقف في مقال نشره قبل عدة سنوات، وهو مخطئ في هذا، أما "الإخوان المسلمون" في مصر فلم يصالحهم العلمانيون، ولم يبقوا في الحكم لأنهم لم يرضوا أن يقدموا تنازلاً مماثلاً للعلمانية، لذلك كان مرسي مصيره السجن ثم كانت نهايته القتل.
هناك تناقض بين الإسلام والعلمانية، وهناك تناقض بين الإسلاميين والعلمانيين،
إقرأ أيضا: غازي التوبة: الإسلاميون هم عماد الثورة السورية ولم يخونوها