شهدت المنطقة العربية في أواخر عام 2010، ما لم تشهده طيلة عقود طويلة، فبعد أن ظلت الدول العربية خارج موجات التغيير والتحول الديمقراطي لأسباب عديدة، مما دفع العديد من الخبراء والباحثين إلى الحديث عن وجود معضلة في تشكيل العقل العربي، وموروثه الثقافي، تحول بينه وبين قيم الديمقراطية بشكل أيديولوجي، أو تزيح الستار عن التناقض بين الثقافة العربية وتلك القيم، إلا أن العالم العربي بدأ في الآونة الأخيرة، يشهد بدايات تفكك بنية النظم السلطوية، بفعل حركات احتجاجية، وانتفاضات شعبية، فدخل العالم العربي مرحلة جديدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
قفزة عملاقة:
قبل عقود مضت، كانت العوائق التي تقف أمام البث المباشر والنشر شديدة الضخامة، ولذا كانت المؤسسات الضخمة فقط هي القادرة على بث الأخبار باستمرار. ولكن خلال العقدين الماضيين أصبح في إمكان الأشخاص العاديين أن يسجلوا، وينشروا، ويبثوا المواد الإعلامية مباشرة إلى ملايين المشاهدين حول العالم، وبحد أدنى من التكلفة.
لقد رافقت شبكات التواصل الاجتماعي؛ الثورات العربية، وساهمت في مشاعر التعبئة ونقل المعلومات، وعملت على تأجيج الغضب والتحريض
علي التظاهر. بل قامت هذه المنصات بدور أساسي في جذب اهتمام الصحافة الغربية الممنوعة من العمل بحرية في البلدان العربية المغلقة، وتزويد مؤسساتها بالصور والمشاهد الحية (الفيديو)؛ فطورت المشهد الإعلامي برمته، من مجرد مشاهد متدفقة من مصدر واحد؛ يتبع أجندة النظام ومحاذيره، والتي غالبا ما تكون عائقا لتداول حرية المعلومات وانسيابها، لأسباب أمنية، تتعلق بالسلامة الشخصية للنظام، والحفاظ على بقائه في السلطة.. طورت تلك الوسائل المشهد، بل أحدثت قفزة عملاقة في الوعي الجمعي العربي.
توجيه الرأي العام:
مع بزوغ فجر مواقع التواصل الاجتماعي، كأحد أبرز اللاعبين في مضمار توجيه الرأي العام، وصناعته أحيانا، تتصارع العديد من القوى، السياسية والدينية والثقافية والاقتصادية؛ من أجل التنافس على كسب تأييد ودعم رواد هذه المواقع الاجتماعية، بهدف توجيههم نحو الأهداف المحددة سلفا، من خلال عدد من الوسائل والأساليب؛ التي تحيط بالمستخدمين وتفرض عليهم أجندة محددة، من خلال القيود والسياجات؛ التي فرضتها تلك المنصات على مستخدميها، والالتزام بها، وإلا التوقيف والحذف.
الربيع العربي:
وفي ظل تزايد الاهتمام العربي بمواقع التواصل الاجتماعي، والإقبال الكبير للشباب العربي على استخدام هذه المواقع؛ نظرا لتأثيراتها المختلفة على البناء الاجتماعي، وتشكيل الوعي السياسي والاجتماعي، باعتباره مؤشرا قويا على تطور المجتمعات والنظم السياسية، كما يساهم في تشكيل وعي الأفراد، بحقوقهم وواجباتهم، وتوجيههم توجيها صحيحا نحو تبني سلوكيات حضارية، وخاصة في المنحى السياسي، والذي يعد من أخطر القضايا التي يشهدها العالم العربي. فمنذ اندلاع ما يعرف بـثورات "الربيع العربي"، وما لحقها من تطورات خاصة، أعقبها فشل كبير في الانقضاض على هذه المنافذ المتنوعة، من الأنظمة الرسمية، بكل ما أوتيت من وسائل القبضة الأمنية.
على الرغم من أن هذه المواقع أنشئت بالأساس للتواصل بين الأفراد، واستخدمت في البداية لأغراض التسلية والترفيه، امتد استخدامها ليشمل النشاط السياسي؛ فأصبحت منبر من لا منبر له، للتعبير عن المواقف السياسية، وأصبح المستخدمون لاعبين أساسيين في توجيه العمل السياسي، وبدا تأثيرها الواضح في الحياة السياسية، وخاصة في ظل تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمعات العربية.
محمد علي:
منذ عدة أيام، أثارت مجموعة من مقاطع الفيديو، التي نشرها الممثل والمقاول
المصري "محمد علي"، جدلا واسعا في مصر، بعدما اتهم فيها الرئيس المصري "عبد الفتاح
السيسي"، وزوجته، وكبار قيادات الجيش بـ"
الفساد المستشري السفيه"، وإهدار مليارات الجنيهات لتشييد قصور خاصة، ليس لها ضرورة، وعلى العكس، يعمل بشكل منهجي على إفقار الشعب، الذي يقبع أكثر من ثلثه تحت خط الفقر. لقد أثارت هذه "الفيديوهات" تساؤلات كثيرة وسخطا عارما. فالبعض يراه رجلا شجاعا، كشف الغطاء عن نماذج من الفساد لم يجرؤ غيره على الحديث عنها من قبل، بينما يعتبره البعض الآخر متجنيا ومدعيا ومشاركا في الفساد.
الجدير بالذكر، منذ تولي "السيسي" رئاسة مصر، بعدما أحدث انقلابه على أول رئيس مصري منتخب، ولم يستطع أحد التكلم، أو الخروج بمظاهرة، في ظل آلة القمع الغاشمة التي يستخدمها السيسي. لكن هذه الفيديوهات التي ينشرها "محمد علي"، حطمت حاجز الخوف المريع؛ الذي وضعه السيسي عقب انقلاب 30 حزيران/ يونيو 2013، بحجة الإرهاب.
إن الأثر الذي أحدثته هذه المقاطع، هو بمثابة ثورة زلزلت أركان النظام والسيسي ذاته، وتحلحلت أجهزته الأمنية من داخله، لمجرد فيديوهات على الشبكات الاجتماعية، في ظل عجز واضح من آلة السيسي الإعلامية، التي يهيمن عليها بشركات عملاقة تتبع المخابرات بالأمر المباشر، إلا أنها وقفت عاجزة عن كبح جماح البطل الشعبي "محمد علي"، كما يحلو للبعض أن يلقبه.
فشل ذريع:
استعانت أجهزة مخابرات السيسي بشخصيات مثيرة للجدل، ومعروف عنها الهجوم على التراث الإسلامي، أمثال إسلام البحيري، أو بعض من مشايخ السلطة، أمثال خالد الجندي؛ علَّهم ينجحون في تفنيد حديث محمد علي، أو علَّهم يُنقذون ما يمكن إنقاذه بعد فشل أسماء إعلامية تقليدية، في نفس المهمة.
وحين بدا أن عناصر الدولة غير قادرة على الاشتباك وحسم المعركة لصالحه الشي، تم توجيه الدعوة لعقد المؤتمر الوطني (الثامن) للشباب في مركز المنارة للمؤتمرات، في 14 أيلول/ سبتمبر الماضي، ليقوم السيسي بالرد على الاتهامات بنفسه، بعدما تيقن من فشل رجالاته في الرد على محمد علي، معلنا في سقطة سياسية لا نظير لها من رئيس دولة؛ أن الأجهزة كادت أن تقبل يديه حتى لا يرد، لكنه أصر على الرد.
رد السيسي خلّف حالة جدلية بين المواطنين، لم تقل في تأثيرها عن مفعول المقاطع الرئيسية لمحمد علي، لا سيما أن المقاول المصري قام بدوره بالرد على حديث السيسي، بلهجة ساخرة وازدراء قضي على ما فعله وأذرعه الإعلامية في جل سنين الانقلاب، وأظهر (محمد علي) ببراعته وعفويته في الحديث، تناقضات السيسي التي وصفها بأكاذيبه المعتادة.
وفقا لتقرير نشرته جريدة نيويورك تايمز، فإن الشركة المصرية "نيو ويفز" التي يملكها "عمرو حسين"، وهو ضابط جيش متقاعد، يدفع لموظفيه الجدد 180 دولارا شهريا، لكتابة منشورات ورسائل مؤيدة للجيش على مواقع التواصل، وأن هناك من يخبرهم بالوسم أو نقاط النقاش، ومع ذلك فشلت تلك اللجان الالكترونية في الدفاع عن السيسي ونظامه.
كما تدين تدان:
توجس السيسي الهائل نابع من إدراكه لتأثير وسائل الإعلام التي ساهمت في إسقاط مبارك واندلاع ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011، وإطاحة الجيش بالرئيس مرسي عبر انقلاب عسكري تم التمهيد له شعبيا، فقدم السيسي نفسه إعلاميا في صورة المُخلّص، والقائد الوطني المنقذ.. فجاءت للجنرال الضربة من نفس السلاح الذي استخدمه من قبل، وهو ما جعله في السابق يتخذ تلك الإجراءات لتصل بصناعة الإعلام إلى الحالة المتردية، فيما يخص قواعد العمل والحقوق والمهنية والحريات الأساسية.
يظل الإعلام الشعبي، الممثل في وسائل التواصل الاجتماعي والمقاطع المرسلة غير الخاضعة للضوابط، هو الكابوس الصعب إخضاعه والسيطرة عليه من قبل النظام، فالاحتجاجات ضد السيسي ونظامه، التي امتدت لساعات متواصلة طوال الليل، في مدن مصرية مختلفة، مساء يوم الجمعة 20 أيلول/ سبتمبر الماضي، بسبب مقاطع الفيديو على التواصل الاجتماعي، يمكن أن تشكل نهاية درامية لأحد أكثر الأنظمة وحشية في تاريخ مصر الحديث!