هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يعكس إصرار السلطات العراقية على حجب مواقع التواصل الاجتماعي منذ أكثر من أسبوع، القوة والتأثير الذي شكلته هذه المواقع بتنظيم وتحشيد الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي لفّت بغداد ومدنا أخرى وهزّت الحكومة والطبقة السياسية الحاكمة، فيما لم تتمكن كل الآلة الإعلامية الرسمية من صحافة وتلفزيونات تقليدية التصدي لهذه الاحتجاجات بخطاب مضاد يكسب الرأي العام الغاضب والناقم على الفساد وتردّي الخدمات والانهيار المعيشي للناس.
قبل ذلك بأسابيع استنفرت ماكينة الإعلام المصري والمؤسسة السياسية طاقاتها للتصدي للأثر الذي أطلقته تسجيلات المقاول والفنان محمد علي عبر مواقع التواصل، وبدا أن هذا الماكينة الضخمة تلهث لمجاراة جهود فرد واحد يقبع بغرفة منعزلة بمدينة أوروبية، ما يعكس ليس قوة الشخص وخطابه بالضرورة بل أهمية السلاح الذي يستخدمه لإيصال طلقاته ورسائله المعارضة والتحشيدية، وهو مواقع التواصل عبر الفضاء الافتراضي، المتحرر لحد بعيد من أي رقابة أو ضوابط سياسية أو أمنية أو قانونية، وهو سلاح يسهل وصول طلقاته لأغلب الناس في ظل الانتشار الواسع للهواتف الذكية ولمواقع التواصل.
محليا؛ بدت قوة التأثير لامتلاك سلاح التواصل الاجتماعي واضحة وحاسمة في أزمة المعلمين الأردنيين، حيث وفرت هذه المواقع وتوظيفها جيدا من قبل النقابة والمعلمين والنشطاء المناصرين منبرا رئيسا وفاعلا بكسب معركة الرأي العام وحشد الغالبية الشعبية وراء خطاب النقابة، وبدت النقابة غير معنية كثيرا بخوض معركة الرأي العام عبر الصحافة ووسائل الإعلام التقليدية، والتي سجل نشطاء المعلمين عليها انحيازها للخطاب الحكومي أكثر.
طبعا؛ لم يعد جديدا الحديث عن قوة وسطوة مواقع التواصل والعالم الافتراضي منذ نحو عقد من الزمن أمام تراجع قوة وانتشار الإعلام التقليدي، لكن الراهن أن هذه القوة والقدرة على التأثير باتت في تزايد أكبر خلال السنوات الأخيرة، نظرا للانتشار الواسع لأجهزة الهواتف الذكية والحواسيب الشخصية وتعميم خدمات الإنترنت بأسعار مخفضة، كما تزايدت قوة تأثيرها نظرا لتحررها إلى حد كبير من قابلية الاحتواء والضبط والتدجين من قبل الحكومات مقابل استمرار هذا التغول الرسمي على الصحافة والإعلام التقليديين.
الحكومات، تحديدا في العالم الثالث والدول غير الديمقراطية لم تقف مكتوفة الأيدي أمام العدو الجديد، بل بادرت لركوب موجته وتفكيك ألغازه لحشد المناصرين ولتسويق قبضتها الأمنية والسياسية، وظهرت عمليات تصنيع المناصرين من محاولات احتواء لنشطاء العالم الافتراضي ممن يحظون بمتابعات واسعة، أو حتى عبر اختلاق المناصرين أو ما بات يعرف بـ”الذباب الالكتروني”، وأيضا عبر اختراق وضرب حسابات نشطاء وقوى معارضة، ووضعت لذلك موازنات ضخمة وافتتحت أقساما وأجهزة متخصصة بدهاليز هذا العالم.
قد يكون الخاسر الأكبر من هذا التحدي الجديد لمواقع التواصل وتطبيقاتها المتناسلة هي الصحافة والإعلام المرئي والمسموع والمقروء بل وحتى الإلكتروني؛ تحديدا في الدول غير الديمقراطية والتي لا تتمع بحرية الإعلام وتصر فيها الحكومات على إبقاء سيطرتها على هذه المنابر الإعلامية وتوظيفها بقمع وتغييب الأصوات الأخرى والمعارضة.
هذه السيطرة شبه المطلقة على الإعلام الرسمي وشبه الرسمي وحتى الخاص في العالم الثالث أسهمت وتسهم بتقوية عود العالم الافتراضي ومواقع التواصل وزيادة انتشارها واستخدامها مصدرا ومحركا لبناء الموقف والرأي الشعبي، رغم كل التحفظات المهنية والقانونية والأخلاقية التي تسجل على الكثير مما يتم تداوله بهذه المواقع.
الراهن، أن إغلاق ومنع الحكومات للشبكة العنكبوتية ولمواقع التواصل لم يعد خيارا متاحا لأي دولة، فالثورة الاتصالية طاغية وباتت قدرا محتوما في عالم اليوم لا يمكن معاندته إلا لساعات أو أيام، كما في الحالة العراقية الأخيرة، وبالتالي فإن على جميع الحكومات، الديمقراطية وغير الديمقراطية، توطين نفسها لتوقع تغييرات واسعة ومؤثرة على أرض الواقع تبدأ شرارتها وتنظيمها وحشد المناصرين لها في العالم الافتراضي الذي يصبح ضبطه وجره لبيت الطاعة الرسمي أكثر صعوبة يوما بعد آخر!
(الغد الأردنية)