بعد أن أوصلت الحكومة اللبنانية البلد إلى حافة الانهيار وانفجر الشارع في وجهها يريد إسقاطها، هل يدخل لبنان دائرة الفوضى المدمرة التي تؤدي إلى انهياره؟ سؤال يطرحه الجميع.
الجيش ينحاز للمتظاهرين
ببساطة، لا أتوقع ذلك، لأنه لا مصلحة لأحد من القوى الفاعلة بانهيار هذا البلد. لا الجماهير المحتشدة تريد ذلك، ولا القوى السياسية التقليدية ولا المصارف، والأهم، أنه لا توجد دلائل تشير إلى رغبة الدول الكبرى في ذلك الانهيار. كما أن الجيش ـ القوة الرسمية المركزية في لبنان ـ يساند الحراك الشعبي بشكل واضح منذ اللحظة الأولى للحراك، فقد أزاح من أمام المتظاهرين كافة العوائق التي تحول دون وصولهم إلى مراكز المدن، بل وقام بحمايتهم من اعتداءات قامت بها مجموعات محسوبة على أقطاب سياسية مشاركة في السلطة (حركة أمل وحزب الله).
هكذا التف الناس حول الجيش (رغبة ورهبة ومصلحة)، إذ يعتبرونه سنداً لهم في تحقيق مطالبهم واستكمال ثورتهم في وجه السياسيين الجشعين والمليشيات "المنضبطة" و "المنفلتة"، ما يؤهل الجيش اللبناني ليكون اللاعب الأساس في المرحلة القادمة لإعادة رسم المشهد برمته.
شكلت ممارسات الحكومة طوال السنوات الأخيرة سلسلة متتابعة ومتجانسة من الإجراءات والسياسات التي تؤدي حتما إلى انفجار الوضع
لكن ما هي معالم المشهد الجديد؟ وما هي خصائصه؟ فهل ما يجري في لبنان هو شأن محلي داخلي محض؟ وهل نضجت الأمور في لبنان كي نقول إنه حان إعلان وفاة النظام السياسي الطائفي المتغطرس الذي تسبب بحروب وكوارث لا حصر لها منذ ولادة الكيان اللبناني؟ وما هو مصير الطبقة السياسية التقليدية وزعماء الطوائف؟ أم أن المسألة أبعد من ذلك، ولها علاقة بالترتيبات الجارية في المنطقة برمتها؟
لقد تراكمت المشاكل في لبنان بشكل واضح لا يمكن إغفاله أو تجاهل تداعياته. واستهانت الطبقة السياسية الحاكمة بأوجاع الناس ومعاناتهم بشكل مستفز. كما ضربت سياسات الحكومة البليدة والمتعجرفة كافة القطاعات التي تمس حياة الناس مباشرة، وشملت كافة شرائح المجتمع وطبقاته، وبات الجميع يشتكي ويئن ويصرخ من غير أن يجد أذنا تسمع له.
سلاح الطائفية بدل الإصلاح
وعوض القيام بعملية إصلاح لتلافي الانهيار الشامل، قام عدد من أركان الحكومة باستعمال سلاح الطائفية العنصرية المقيتة ضد النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين للتغطية على إخفاقاتهم وفشلهم الذريع في معالجة مشاكل الناس، بل وتم تحميل هؤلاء المساكين سوء الأوضاع الاقتصادية، رغم علم الجميع أن الحكومة مستفيدة من وراء المداخيل التي تصل الدولة من الدول الداعمة للنازحين واللاجئين، كما أن أغلب من يعمل من هؤلاء (إذا وجد عملاً أصلاً!) فإنه يعمل في قطاعات لا يطيقها اللبناني عادة ويفر منها.
هل جرى هذا، فقط، بسبب أخطاء الحكومة وبلادتها وإهمالها وغطرسة وجشع أهم أركانها؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن أبعاد ما يجري يتجاوز ذلك، ليكون جزء لا يتجزأ من ترتيب جديد للمنطقة برمتها وإعادة صياغتها على أسس تتناسب مع ما استجد في هذه المنطقة والعالم!؟
في هذه الأثناء، جاء قرار الحكومة بفرض ضريبة إضافية على خدمة "الواتساب" المجانية للاتصالات ليكون بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. شعر الناس بحالة من الازدراء والاختناق، فخرجوا من كافة المناطق والطوائف والشرائح والطبقات الاجتماعية، بشكل غير مسبوق، اعتراضاً على سخافة سياسات الحكومة وابتذالها. فملؤوا الساحات العامة بأعداد هائلة في كافة مدن لبنان. تجاوبت الحكومة مع هذا الحراك بإصلاحات جزئية في محاولة يائسة لإنقاذ نفسها ونيل رضا الناس. فيما أصرت الجماهير على إسقاط الكل (كلن يعني كلن)، العهد والرئاسات الثلاث والحكومة والزعامات الطائفية التي استمرأت إثارة النعرات الطائفية وزرع البغضاء بين مختلف الطوائف عقودا من الزمن، بغية بناء أمجاد شخصية وعائلية وحزبية فئوية على ظهور عامة الشعب. وطالب الناس بمعرفة مصير القروض وباستعادة الأموال المنهوبة والأملاك العامة المغتصبة، وأصروا على إدارة البلاد من خارج الطبقة السياسية التلقليدية، وصار الحديث قوياً عن ضرورة وجود نظام انتخابي لا طائفي في لبنان.
باختصار، لقد شكلت ممارسات الحكومة طوال السنوات الأخيرة سلسلة متتابعة ومتجانسة من الإجراءات والسياسات التي تؤدي حتما إلى انفجار الوضع، بحيث لم يعد السؤال المطروح في السنتين الأخيرتين: هل ينفجر الناس؟ إنما متى ينفجر الناس؟ فكل السياسات المطبقة تقود حتماً إلى ثورة، ابتداء بالفساد المستشري وإساءة رعاية الناس وتكميم أفواههم لدرجة ملاحقة المواطنين والصحفيين بسبب منشور على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، مروراً باختناق الوضع الاقتصادي وإغلاق الشركات والمؤسسات التجارية الخاصة وانتشار العطالة بين الشباب وهجرتهم المتواصلة، وصولاً إلى سوء الخدمات وغلائها في كافة القطاعات الحساسة كالصحة والتعليم والماء والكهرباء، إضافة إلى انتشار أكوام النفايات في كل مكان وتسميمها الأجواء وشيوع الأمراض. فهل جرى هذا، فقط، بسبب أخطاء الحكومة وبلادتها وإهمالها وغطرسة وجشع أهم أركانها؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن أبعاد ما يجري يتجاوز ذلك، ليكون جزءا لا يتجزأ من ترتيب جديد للمنطقة برمتها وإعادة صياغتها على أسس تتناسب مع ما استجد في هذه المنطقة والعالم!؟
كاتب سياسي وأستاذ جامعي من فلسطين مقيم في لندن
[email protected]