هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ما من حكومة تولت السلطة في السودان في تاريخه الحديث، وهي تتمتع بهذا القدر من السند الجماهيري والاستبشار الشعبي الكاسح بقدومها، مثل حكومة الدكتور حمدوك التي تحكم السودان، وهي ما زالت تعيش أجواء شهر العسل الممتد بعد شهرها الثاني، ولكن من الخير لهذه الحكومة أن تخرج من أجواء شهر العسل، وتواجه الأمر الواقع الذي يشير إلى أن هذه الجموع الثائرة التي منحتها كل هذا التأييد والتعضيد، تمارس بالقدر نفسه حقها في التقويم والمحاسبة، وهي قد بدأت تتململ الآن، ونخشى أن تنتقل عما قريب من مرحلة «التململ» إلى مرحلة المواجهة، ما لم تتدارك الحكومة الأمر، وتُقبل باندفاع على تحمل مسؤوليتها وأداء واجباتها.
الثوار الذين جاؤوا بهذه الحكومة إلى سُدة الحكم، ما كانوا يتصورون أن يتسم أداؤها بهذا القدر من البطء القاتل، حتى تكاد تبدو وكأنها لا تعرف ماذا تريد أن تفعل، فما من خطوة خطتها إلا وجاءت متأخرة عن موعدها زمانا طويلا. إن مجرد تعيين موظف قيادي في موقع بالحكومة يحيط به قدر من التردد والتمهل وإضاعة الوقت، حتى تضج «الأسافير» -وسائل التواصل الاجتماعي- بالشكوى من أن مثل هذه الأمور الصغيرة لا تستحق كل هذا الوقت والتفكير، من حكومة منوط بها أن تتصدى للقضايا الكبرى، مثل معالجة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تحاصر الناس في حياتهم اليومية، أو مثل دفع عملية السلام إلى الأمام وفق استراتيجية مدروسة، بدلا من أن تسير العملية بهذه الدرجة من العفوية والتخبط، الذي أحاط بمحادثات جوبا!
لقد آن الأوان لكي تمارس الحكومة وقفة جادة مع النفس، لتعيد النظر في طريقة عملها، وأن تتذكر أول ما تتذكر، أنها بداية الطريق لنظام ديمقراطي، وما من نظام ديمقراطي يتخذ قراراته بمعزل عن الجماهير، نحن نسمع عن برنامج الحكومة للمئتي يوم الأولى من حياتها، دون أن نعرف ما هي محتويات ذلك البرنامج، وعندما تتكرم علينا بإشارات حوله، لا يتجاوز الجديد في تلك المعلومات أن البرنامج يحتوي على أكثر من أربعمائة مشروع، ما هي تلك المشاريع؟ ومن الذي حددها؟ ومع من ناقشتها الحكومة؟ وهل الحكومة تريد أن تواصل تطبيق سياسات النظام البائد؟ بأن تفرض على الناس مشاريع لم تخرج منهم، ولم يستمع أحد لرأي الناس فيها، أين أبجديات الديمقراطية؟
والمواطن الذي افتقد دوره الرائد في إدارة الشأن العام في عهد النظام البائد، من حقه أن يسأل: ما الذي تغير الآن؟ صحيح أن إشراكهم في القاعدة في إدارة شأن مجتمعاتهم سيكتمل يوم أن يصدر قانون الحكم المحلي، ولكن هل ثمة ما يمنع من أن تشكل الآن لجان أحياء مؤقتة تتولى إدارة شأن المجتمع في المناطق المختلفة، وتمثل صوت الناس إلى أن يقنن الأمر عبر قانون جديد؟ ما الذي يغل يد الحكومة؟ ومتى فتحت قنوات حوار مع الجماهير؟ إن خطابها السياسي غائب تماما، وإن قنوات الحوار مسدودة لا مع الحكومة فحسب، بل مع الأجهزة السياسية الممثلة في الحرية والتغيير وأحزابها ومؤسساتها، كلها أصبحت متقطعة الصلة بقواعدها!! بل إن تجمع المهنيين وهو التنظيم الرائد لهذه الثورة، تحللت روابطه التنظيمية مع قواعده، وتباعدت المسافة بين قياداته وتلك الجماهير.
إن ثالوث السلطة المتمثل في مجلس السيادة ومجلس الوزراء والتنظيم السياسي الحاكم، يفتقد التواصل والتنسيق، وهو أبعد ما يكون عن توحيد الرؤى، وهذا خلل سيؤثر على أداء كل مكونات السلطة، وستفتقد القرارات أي مرجعية فكرية، أو أي توجهات استراتيجية يتجاوب معها الجميع.
دعني أختتم بأن أقترح على هذه الأجزاء الثلاثة، أن تحاول أن تخلق بينها صلة تنظيمية مستقرة، وأن يحدد كل واحد منها دوره واستراتيجية عمله، ثم أن يتنادوا جميعا لاجتماع مشترك يخلص إلى استراتيجية عمل مشتركة وملزمة لثلاثتهم، وعلى ضوئها ينطلق كل في أداء دوره في تجاوب لصيق مع القواعد الجماهيرية!
( العرب القطرية)