منذ أسبوعين تقريبا كان
السيسي في مؤتمر تحدث فيه أحد أساتذة جامعة
سيناء، قام وتحدث عن الجيش وسيناء وأن
الجيش يقوم بدور مشهود فيها، إلا أنه باغت السيسي بسؤال لم يكن يتوقعه مؤكدا له
أنه من أهل سيناء، سأله هذا الأستاذ: لماذا تم تهجير أهل سيناء؟ وقع هذا السؤال
على مسامع المنقلب وقع الصاعقة فارتبك بعض الثواني ثم استجمع كلامه في لهجة حادة:
"نحن لم نهجر أهل سيناء".
وهنا كان السؤال في حد ذاته عنوانا لذلك
التعتيم المقصود على سيناء وأهلها، هذا التعتيم الذي استمر سنوات بل دام عقودا؛
ولكن هذه المرة ازدادت وتيرته في أفعال ومشاهد لم تشهدها سيناء من قبل، يعلمها فقط
شهود رؤية عيان؛ مثل ذلك الأستاذ الذي تبرأ منه الجميع حتى الجامعة التي ينتمي
إليها، أما ما يفعله السيسي وأدواته التي يستخدمها في إدارة كل الأمور التي تتعلق
بهذه الجغرافيا المهمة (جغرافيا سيناء)، فإنها لا تزال صندوقا أسود.
سيناء كانت مستهدفة تاريخيا، فهي المدخل
الجنوبي للقدس، ومصر هي الحارس الأمين لها، فما كان من الاحتلال إلا أن وضع خططه
منذ جاء واحتل
مصر بعزل سيناء، فلا يجوز الترحال ولا يجوز التنقل من العاصمة
لسيناء أو العكس إلا بإذن من قبلهم. والمصيبة الأكبر هنا هو أن كل الأنظمة
المتعاقبة استمرت على نفس السياسة ونفس الأوامر، فلا نظام ملكي ولا نظام جمهوري
أنصف سكانها، ولا استطاع سكانها الحصول على أبسط حقوقهم في التنقل، حتى جاءت الحرب
فوضعت سيناء ضمن منطقة عسكرية كبيرة مغلقة؛ يعامل سكانها معاملة مختلفة وينظر
للمنطقة نظر أمن قومي عسكري لا تشمل سكانها، واستمرت تلك السياسة حتى أن جهاز
تنمية سيناء تمتلك فيه الأجهزة الأمنية صوت الفيتو في كل قرارته فكل المشاريع
معطلة وكل الخدمات متوقفة بذريعة الأمن القومي. هذه الرؤية القاصرة عن عمد لم
تتفهم أبدا معنى ما تمثله سيناء من حالة استراتيجية.
سيناء في الاستراتيجية والسياسة والجغرافيا
يدرك قيمتها جمال حمدان؛ الذي وصفها بأنها أطول سجل عسكري معروف في التاريخ..
بوابة مصر الشرقية التي دارت على أرضها معظم المعارك، وحلقة الوصل بين أفريقيا
وآسيا، وطريقها إلى الشام.
إن مصر هي صاحبة أطول سجل حضاري في التاريخ،
وبالتبعية فإن سيناء هي صاحبة أطول سجل عسكري منذ فجر الزمان. سيناء بأكملها تمثل
وحدة جغرافية واستراتيجية واحدة لكل جزء منها قيمته الاستراتيجية الحيوية. تحدث
حمدان عن الجزء الشمالي منها؛ ذا الطبيعة السهلة (الممر الرئيسي)، أيضاً عن الجزء
الجنوبي بطبيعته الجبلية. وشرم الشيخ بصفة خاصة هي المفتاح الاستراتيجي لمثلث
سيناء الجنوبي. إن سيناء ليست صندوقاً من الرمال كما يظن البعض، لكنها صندوق من
الذهب بثرواتها وموقعها، وأكد حمدان في النهاية على أهمية تعميرها كحل وحيد
لحمايتها من الطامعين.
سيناء الصندوق الأسود هي عند جمال حمدان ضمن
معادلة عبقرية المكان؛ تعبر عن ممر وتعبر عن واصلة وتعبر عن منجم كبير ورصيد
استراتيجي عظيم.. هكذا ينظر إليها حمدان في كتابه "سيناء" الذي أراد به
أن يذكرنا بأن لا نفرط في هذا الكنز الكبير، ذلك الكنز الذي لا يعبر عن رصيد مادي،
ولكنه عنوان لحالة استراتيجية كبرى؛ تظل في مصر نقطة قوة إن كان لقادتها وعي أو
نقطة ضعف إن كان في قادتها غِيّ. إنها معادلة عبقرية المكان في سيناء التي أصر
هؤلاء من عصابة العسكر، وعلى رأسهم السيسي، على أن تكون سيناء سر الأسرار الذي
يُعتم عليه ويُغيم على حقائقه، وتقوم عليه السرديات من أول سردية صفقة القرن إلى
سردية تنمية سيناء.
قال أحد شابين كنا قد أرسلناهما في فترة حكم
الدكتور مرسي ليكونا على مقربة من جهاز تنمية سيناء ثم عادا وعلى شفتيهما رواية
واحدة؛ إن الجهاز الذي يسمى بجهاز تنمية سيناء ليس في الحقيقة إلا جهاز "لتنحية
سيناء" وضمان عزلتها، وأن هذا الجهاز الذي يتحدث عن تعمير سيناء ليس إلا
محاولة لتطويقها لا تعميرها، في إطار التحكم في منافذها وكذا التحكم في مخارجها.
ظلت سيناء وفق سردية واحدة صندوقا أسود لا يعرف سره إلا القليل القليل، لتُترك
نهشا للدعاوى والإشاعات إلا من هؤلاء الذين شهدوا تلك الأمور رأي العين ولا تحتمل
تخطئة البصر والرؤية.
يخرج علينا السيسي في هذا اليوم، الخامس من
تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، ليقول إنه في تلك السنوات القليلة التي حكم فيها صرف
على تنمية سيناء أكثر من 800 مليار جنيه. صدق أو لا تصدق! إنها لعبة أرقام يجيدها
ذلك النظام؛ يتلو أرقاما فخيمة ولا نرى من مشروعات أو إنشاءات سوى شبكات طرق بعد
إخلاء المنطقة من سكانها. فلمن تلك الطرق التي تيسر الحركة وتسهل الاتصال؟ لا
تدري، فإن الصندوق الأسود يزداد سوادا وعتمة، ويضاف إلى أسرار سيناء سر جديد، لكن
فلتتأكد أن العصابة تقوم بالتخطيط لسيناء تخطيطا ليس لأهلها ولا هو لتعميرها ولم
يكن يوما لتنميتها، بل هو ضمن هذا الخيار الاستراتيجي لهؤلاء بتنحية سيناء.
وتبدو تلك التصورات في "تنمية" أو
"تنحية" سيناء يغلب عليها الطبيعة الأمنية للتفكير بمستقبل سيناء ما بين
طرق، وأن المناطق الأمنية السبع التي يتم تنفيذها في سيناء هي على حد تعبير
المنقلب مناطق حماية، وأنه تم الوصل بين الطرق القديمة والحديثة التي تم تصميمها
بما يسمح بالتنقل بين الطريقين، وأن تلك الطرق بتكلفة مبدئية وصلت إلى خمسة
مليارات ونصف جنيه. وأشار إلى أن الحلول الحقيقية لبناء الدولة ليست بسيطة، وأن
الدولة خلال السنوات الخمس الماضية ضخت استثمارات هائلة في سيناء باعتبارها تمثل
الأمن القومي لمصر، موضحا أن التكلفة الاستثمارية للمشروعات التي يتم تنفيذها في
سيناء تصل إلى 800 مليار جنيه، تبدو هذه الرؤية بالكامل عملية أمنية لا حقيقة
تنموية.
ومن المؤسف حقا أن نرى أن هذه السياسات لا
تعرض بأي حال على أي جهة تمارس الرقابة. هذا الصندوق لا يحمل مفتاحه إلا تلك
العصابة، ذلك أن هذا المفتاح هو فقط لخدمة الخيارات الاستراتيجية التي تتعلق
بالكيان الصهيوني، فتدار الأمور لمصلحته وتسير السياسات وفق أمره وهواه لضمان أمن إسرائيل
ليس إلا.
خطورة هذه الرؤية التي تتعلق بهذا الشأن إنما
تكمن في أن
التهجير في سيناء يتم وفق تلك الأهواء لا بسياسات مرسومة، وهدم البيوت
والإخلاء، بل والمساجد، يتم لغايات معلومة لديهم، مجهولة لدى الكافة. فماذا عن سيناء؟
فإذا صرخ أهلها عتّموا على ذلك، وإذا قتلوا العائلات فيها وفاحت فضائحهم قالوا
قُتلوا بالخطأ.. يقتلون بالعشرات، آخرهم أكثر من 80 وقالوا إنها تصفية جسدية من
دون إعلان عن أسماء أو إعلان عن هوياتهم، إلا تلك اليافطة التي يصدعون بها
ويختبئون خلفها: "الإرهاب". فكيف يتم كل ذلك ولم تنل سيناء بعدُ الأمن،
واستباحها العدو الصهيوني بطائراته الزنانة من غير أي حساب، وفي رواية بتنسيق ومن
غير أي تعقيب أو كلام؟
في النهاية، سيناء صندوق أسود خارج إطار
التغطية.. وعن سيناء البشر حديث آخر لا بد أن نذكره ونُذكّر به.