اندلعت جولة جديدة من المواجهة العسكرية بين قطاع
غزة وجيش الاحتلال الأسبوع الماضي، بعد إقدام الاحتلال على اغتيال القائد العسكري في حركة الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا، وهو ما قاد إلى حالة غضب عبرت عن نفسها بإطلاق مئات الصواريخ محلية الصنع من قبل الجناح المسلح لحركة الجهاد الإسلامي وعدد من الأجنحة المسلحة الأخرى
تجاه البلدات المحتلة. وفي المقابل، واصل جيش الاحتلال عدوانه ردا على هذه الصواريخ، لتنجلي هذه الموجة بعد ثلاثة أيام عن مقتل 34 فلسطينيا، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال.
أهم ما تميزت به هذه الجولة هو إحجام كتائب القسام الجناح العسكري الأكبر في قطاع غزة، وهو الذراع المسلح لحركة
حماس الحاكمة عن المشاركة الرسمية في هذه الجولة، رغم أن دخول الأجنحة المسلحة على خط المواجهة كان مبررا بل ضروريا وفق قواعد الاشتباك المعمول بها في المعادلة بين قطاع غزة ودولة الاحتلال منذ عام 2012، حين اغتال جيش الاحتلال القائد في كتائب القسام أحمد الجعبري، وهي عملية الاغتيال التي أدت إلى موجة مواجهة واسعة قادت إلى ترسيخ معادلة بأن
الاغتيالات خط أحمر لا تسمح
المقاومة الفلسطينية في غزة لحكومة الاحتلال بتجاوزه. ووفق هذه المعادلة، فإن اغتيال أبو العطا مثل تجاوزا لهذا الخط الأحمر، وهو ما استدعى الرد العسكري الذي لم تشارك فيه كتائب القسام.
ثمة الكثير مما ردده أنصار حركة حماس في تبرير الموقف، مثل أن كتائب القسام شاركت بالفعل، لكنها لم تفعل ذلك صراحة باسم كتائب القسام كي لا تتسع دائرة الاستهداف الصهيوني لقطاع غزة، ومثل أن حركة حماس في غزة تمثل الظهير السياسي والإعلامي لفصائل المقاومة حتى إن لم تشارك بنفسها في المواجهة العسكرية، وأن هذه ميزة لها على السلطة الفلسطينية
في الضفة التي تحارب المقاومة العسكرية.
ومع الإقرار بأشكال الدعم المعنوي الذي تقدمه حركة حماس لفصائل المقاومة في قطاع غزة، كون البنية الأيديولوجية والتنظيمية للحركة تستمد مبرر وجودها من المقاومة العسكرية، ومع الحرص البادي خلال الجولة الأخيرة وعقب انتهائها على إظهار متانة العلاقة بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي، كونهما يجدفان في مركب واحد يشق طريقه بين الأمواج المتلاطمة، إلا أن عدم مشاركة كتائب القسام باسم كتائب القسام صراحة في مواجهة عسكرية مبررة بكسر الاحتلال خطا أحمر في معادلته مع قطاع غزة؛ يستدعي النقاش الفكري والسياسي.
هناك تغير حدث في قطاع غزة منذ عام 2005، عام الانسحاب العسكري لجيش الاحتلال من قطاع غزة، وهو أن حركة حماس وجدت نفسها تنتقل من أسلوب حرب العصابات مع جيش الاحتلال إلى أسلوب الجيش المنظم، وتعزز هذا التوجه في عام 2007 حين سيطرت حركة حماس على إدارة قطاع غزة بعد انسحاب القوات الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية.. في تلك اللحظة تحولت حركة حماس إلى العنوان السياسي لقطاع غزة، ولم تعد مجرد فصيل عسكري يتوارى تحت الأرض وبين الناس، بل تحولت إلى كيان جغرافي محدد الملامح يسهل على آلة الدعاية الصهيونية تسويق استهدافه.
في هذه الحالة الجديدة صار لحركة حماس مقرات ومكاتب وأبراج مراقبة، وفي ذات الوقت صارت حركة حماس مسؤولة عن إدارة معيشة أكثر من مليوني مواطن، وتوفير احتياجاتهم من الرواتب والكهرباء والصحة والتعليم، وبذلك ارتفعت تكلفة بقاء حماس في المشهد المقاوم، وكسبت دولة الاحتلال أدوات جديدة للضغط على هذه الحركة، فيما قبل عام 2007 كان بوسع حركة حماس أن تمارس المقاومة ضد الاحتلال كل أسبوع، وكان حدود رد الاحتلال اغتيال عناصرها أو تنفيذ اجتياح لبعض المناطق الحدودية وارتكاب مجازر، لكن دون المساس جوهريا بالشروط الأساسية لحياة السكان اليومية، أما بعد أن صارت حركة حماس عنوانا سياسيا وميدانيا واضحا فوق الأرض، فقد أمسكها الاحتلال من اليد التي تؤلمها، وصار توفير ضرورات المعيشة للسكان مرهونا
بسلوك حركة حماس المقاوم، وهو ما خلق بالضرورة قيودا كثيرة أضرت بديمومة حالة الاشتباك مع الاحتلال.
ثمة حجة يستدعيها أنصار حركة حماس لتبرير الحالة الراهنة، وهي أن الاشتباك اليومي ضد الاحتلال غاب بالفعل، لكن صمت المقاومة ليس صمت استسلام بل هو إعداد
للمعركة القادمة، وأن الكتائب تواصل في فترات التهدئة التدريب والتجهيز للمواجهة ضد الاحتلال.
من المؤكد أن هناك الكثير من المخلصين الذين يرون المسألة من هذه الزاوية، ولا أشك في إخلاصهم وصدق مسعاهم، لكن في هذا المنطق إسقاط لاعتبار مهم في المواجهة ضد الاحتلال، وهو اعتبار الديمومة والاستنزاف وعدم إعطاء الاحتلال أوقاتا طويلة من الهدوء، يستعيد خلالها نشاطه ويستثمرها في جذب السياحة والتطبيع، ويضعف فيها قوة حملات المقاطعة الدولية وسحب الاستثمارات. إن إبقاء صوت الشعب المكافح من أجل حريته مسموعا بشكل دائم؛ وإبقاء صورة المواجهة بين الشعب والاحتلال هو مقصد في ذاته.
فلسفة المقاومة في الحالة الفلسطينية في هذه المرحلة التاريخية ليست مبنية على هدف التحرير، بل على هدف رفع التكلفة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية للاحتلال، وعلى هدف تعزيز البقاء الفلسطيني والقدرة على الصمود والاستمرار. وفي ضوء هذه الفلسفة، فإن إبقاء
حالة من الاشتباك الدائم ضد الاحتلال أهم من الإعداد لمعارك كبرى قصيرة الأمد؛ يرتفع فيها الثمن المدفوع من قبل الشعب الفلسطيني، وتعطي انطباعا بأنها معركة بين جيشين أكثر من كونها معركة شعب يخوض نضالا مستداما من أجل حريته.
لعل الدرس الأهم من المواجهة الأخيرة وموقف كتائب القسام منها؛ هو أن المبالغة في تنظيم الحالة الشعبية المواجهة للاحتلال سيضعف فاعلية هذه المواجهة ويضاعف قيود ممارستها، وأن ارتباط حركة المقاومة بالسلطة والمصالح سيوسع قدرة الاحتلال على تقييدها، وأن تضخم الكيان المقاوم واقترابه من حالة الجيش ربما يعطيه مزيدا من الكفاءة العسكرية لكنه يعطي الاحتلال أريحية سياسية؛ ويعفيه من تحمل تكلفة الاستنزاف الشعبي الدائم.
من الجدير ذكره أني لا أقصر معنى الاشتباك الدائم على المواجهة المسلحة، إذ إن كل صورة تظهر الشعب المناضل في سبيل حريته وحقوقه الإنسانية والمتجذر في وطنه، وتظهر وجه الاحتلال والعدوان، هي حالة اشتباك ينبغي ألا يزهد بها المقاومون أو ينظروا إليها باستعلاء من خنادقهم العسكرية، إذ ما قيمة أن تنتصر عسكريا إذا تحول الوطن إلى طارد لأبنائه؟!
من الجدير ذكره أيضا أن غزة ليست وحدها الملامة في مآلات المشروع الفلسطيني المقاوم، فضعف الفعل الشعبي في الضفة المحتلة والداخل الفلسطيني، حتى على صعيد التظاهرات السلمية والأنشطة الفنية والثقافية، أضعف من قوة الرواية الفلسطينية بأنه شعب يخوض نضالا من أجل الحرية، وأظهر المواجهة كما لو أنها فقط مواجهة بين دولة اسمها اسرائيل وكيان اسمه غزة!
والله المستعان.