الكتاب: نقد السياسة في أمراض العمل السياسي
المؤلف: عبد الإله بلقزيز
الناشر المركز الثقافي للكتاب
الطبعة الأولى 2019
عدد الصفحات 286
ليس من عادة المفكر العربي عبد الإله بلقزيز أن يدخل معترك تفكيك البنيات الحزبية وأشكال ممارستها للسياسية، فضلا عن مسلكياتها التنظيمية، فسجله البحثي يحتفظ بدراسات كثيرة تمركزت جلها حول رصد وتحليل الخطاب الإصلاحي ثم النهضوي، ونقد مختلف الخطابات التي أنتجتها التيارات الفكرية التي تؤثت الساحة الفكرية العربية، قومية واشتراكية وإسلامية؛ فقد كان اهتمامه الأكبر بحقل الإيديولوجيا ودراسة الخطابات النهضوية، إذ حرص على الحفر في الظاهرة الإصلاحية، ثم الظاهرة النهضوية، مع محاولة تجسير العلاقة بينهما، وبحث سيرورات الامتداد في الفكر النهضوي، بل ذهب به الأمر حد اعتبار الحركة الإسلامية كتعبير من تعبيرات هذا الفكر النهضوي، فأفرد أكثر من كتاب في هذه القضايا، نقدا للخطاب القومي، ومرورا بمختلف الخطابات التي تبناها الداعية أو المثقف، وناقش دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي، غير أنه في كتاب "نقد السياسة: أمراض العمل السياسي" اتجه متجها آخر، بعيدا عن دراسة الخطاب، أو للدقة بعيدا عن حقل الإيديولوجيا، وقريبا جدا من حقل دراسة الظاهرة الحزبية ضمن حقلها السياسي مركزا في ذلك على ثلاثة مستويات أساسية، مستوى الفكر السياسي المؤطر للأداة الحزبية، ومستوى الممارسة السياسية، ومستوى التنظيم.
الأمراض العشرة في العمل السياسي:
في فصول الكتاب العشرة، يحاول عبد الإله بلقزيز أن يشرح أمراض العمل السياسي التي اتسمت بها البنيات الحزبية في مختلف السياقات العربية، إذ التزم في شرطه المنهجي الابتعاد عن دراسة الحالة، والاستعاضة عنها بالتركيز على المشتركات التي تميز البنية الحزبية في العالم العربي، إذ توصل بهذا الخصوص إلى حصر عشرة أمراض تطال المستويات الثلاثة للعمل السياسي، مستوى الفكر المؤطر للعمل السياسي، ومستوى الممارسة السياسية التي تضطلع بها لأداة الحزبية (الأحزاب)، ومستوى التنظيم وما تراكم من معضلات أعطبته.
ويعتبر طرق عبد الإله بلقزيز لهذا الموضوع استكمالا لما كان قد باشره من نقد لخطابات المثقف العربي في كتابه "نهاية الداعية" إلا أنه في هذا الكتاب، حاول أن يركز على أمراض السياسة، وعلى الطرق التي يعتمدها العمل السياسي في إدارة أزمة العمل السياسي من خلال ترك هذه الأمراض تستفحل، وتعطب البنى الحزبية التي نذرت نفسها للتأطير السياسي، إذ ركز في هذا الكتاب على أمراض الجسم الحزبي، سواء في مجال الفكر أو في الخطاب، أو في الممارسة وفي الأدوات والوسائل ثم في التنظيم والبنى المؤسسية.
يرى بلقزيز أن تراكم الحالات المرضية التي يعرفها الجسم الحزبي في العالم العربي، دون إنجاز ورش فكري للتصويب والترشيد ينتهي بهذه الأحزاب إلى تآكل رصيدها والنيل من صدقيتها وتمثيليتها
وكان قصد المؤلف أن يشكل هذا التشخيص أرضية لورشة حوار فكري ونقاش سياسي حول المسألة الحزبية لمحاولة تطويق هذه الأزمات والخروج منها، وبناء أرضية صلبة لعمل سياسي وبنى حزبية فعالة في العالم العربي. وقد قسم بحثه لثلاثة أقسام وملحق، خصص في كل قسم أمراض السياسة في مستوى من المستويات الثلاثة المذكورة، الفكر، فالممارسة، ثم التنظيم، وختم كتابه بملحقين ضمنهما دراسة حالة البنى الحزبية في المغرب، مركزا في المحلق الأول على تراجع الظاهرة الحزبية في المغرب، ومحللا في الملحق الثاني مظاهر الانحطاط الحزبي عند اليسار المغربي.
في أمراض الفكر داخل التنظيمات السياسية
فعلى مستوى الفكر، حاول عبد الإله بلقزيز أن يتوقف عند أربعة أمراض رئيسية، أفرد لكل مرض فصلا خاصا، ناقش في الأول مرض الدوغمائية والنزعة النصية والاعتقاد من خلال التمسك بالنص ـ أي نص ـ امتلاك الحقيقة المطلقة ونزعها عن المخالف، وتناول في الفصل الثاني معضلة النزعة الدعوية في العمل السياسي، وخصص الفصل الثالث لمرض العدمية السياسية، فيما تناول بالتفصيل ما أسماه بمرض "القصووية" في العمل السياسي وذلك في الفصل الرابع، ويظهر من خلال حصره لهذه الأمراض التي أصابت الفكر المؤطر للبنيات الحزبية، أنه حاول أن يستقصي تعبيرات الأحزاب السياسي بمختلف ألوان الطيف القومي والاشتراكي والإسلامي، محاولا بحث السمات المشتركة التي تميز فكرهم، بغض النظر عن الاختلافات التي تحكم قسمات هذا الفكر ومفاصل الإيديولوجية التي تميز بعضهم عن بعض.
أمراض الممارسة والتنظيم لدى التشكيلات الحزبية
أما على مستوى الممارسة، فقد توقف عبد الإله بلقزيز على ثلاثة أمراض خطيرة تفتك بالعمل السياسي، وهي الشعبوية، والانتهازية، والعنف السياسي، فيما ركز ضمن الأمراض التي تصيب البنى المؤسسية للتنظيمات الحزبية على ثلاثة أعطاب رئيسية هي: المركزية البيرقراطية، التي تمنع التنظيمات من الإبداع والتفكير الحر، والانشقاقات التنظيمية التي تحيل على الظاهرة الانقسامية التي ناقشها واتربوري في حقل السياسة، وعدد من الباحثين في حقل الأنثروبولوجيا مثل غيلنر وغيرهم، ثم تعرض لمرض ثالث هو العفوية، أو الارتجال وأخذ مسافة عن الفكر العلمي. هذه الأمراض الثلاثة التي تفتك بمختلف التنظيمات الحزبية، يرى بلقزيز أنها هي التي تحول البنى الحزبية إلى كائنات استبدادية نرجسية تضخم الذات وتقصي الآخر، وتقتل الحقيقة حين تلغيها عن الآخرين وتنسبها فقط للذات.
من نقد السلطة إلى الحاجة لنقد السياسة
والملاحظ في كتاب بلقزيز أنه حاول أن يرسم مفارقة دالة حين أشار إلى حجم الركام من النقد السياسي الذي توجه للسلطة، في الوقت الذي كان يتوجب أن يوجه إلى السياسة برمتها، أي ليس فقط إلى النخب الحاكمة، وإنما أيضا إلى النخب الأخرى، سواء منها الموالية للحكم أو المعارضة له، إذ تم تجاهل الحاجة إلى النقد الذي يستهدف التصويب والترشيد والمراجعة ونقد أخطاء السياسة.
ويرى بلقزيز أن تراكم الحالات المرضية التي يعرفها الجسم الحزبي في العالم العربي، دون إنجاز ورش فكري للتصويب والترشيد ينتهي بهذه الأحزاب إلى تآكل رصيدها والنيل من صدقيتها وتمثيليتها، إذ تتراجع شعبيتها في نظر الجمهور، وتسقط تبعا لذلك في الاستشارات الشعبية والاقتراعات الانتخابية.
ويرى عبد الإله بلقزيز أن نقد أحزاب اليسار وأحزاب الحركة الوطنية هو أمر يعني المثقف إلى حد كبير، وأن الحاجة تدعو إلى التفكير في أوضاعها الداخلية وفي أدائها السياسي، وما تعانيه من معضلات مزمنة لاسيما في بنياتها وعلاقاتها التنظيمية الداخلية، ومن غياب الديمقراطية الداخلية وتسلط الأوليغارشيا البيروقراطية على القرار فيها، وما ينتج عن ذلك كله من الحيلولة دون تدفق الأفكار والسماح بالارتقاء التنظيمي للأجيال الجديدة داخلها، فضلا عن الحاجة التي تلزم بضرورة مواجهة حالة التكلس الفكري والسياسي الذي تعانيه هذه الأحزاب، وعجزها عن التكيف مع متغيرات العصر، وفشلها في اجتراح الأجوبة الضرورية للمعضلات المعاصرة.