هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: سؤال المهنية والأيديولوجيا في الصحافة- الحالة المغربية نموذجا
المؤلف: محمد البقالي
الناشر: المركز المغربي للأبحاث ودراسة السياسات
الطبعة الأولى: تشرين ثاني (نوفمبر) 2018
عدد الصفحات: 304
يبرر الإعلامي المغربي محمد البقالي دوافعه لتأليف هذا الكتاب بسببين أساسيين؛ أولهما أهمية الموضوع، وثانيهما ندرة التأليف فيه، وتكمن أهميته من جهة الارتباط الوثيق لوسائل الإعلام بحياة الفرد وأثرها في تحولات المجتمع. أما تفسير ندرة الدراسات وقلتها، فيرجع بحسب الكاتب إلى الفجوة الكبيرة بين سرعة التطور التكنولوجي الإعلامي والبحث العلمي، وبين ضرورات التأني والصرامة في البحث العلمي، مع تسجيل تأخر كبير في الدراسات الاجتماعية التي تقارب وسائل الإعلام... فمقارنة بين واقع البحث في أمريكا وأوروبا الذي يعرف بعض المواكبة والتوازي، وبين العالم العربي، يسجل الكاتب تأخر الدراسات وعدم تحقيقها للتراكمات الضرورية في هذا الحقل. فالحداثة النسبية لهذا الفرع من فروع علم الاجتماع التي تدرس وسائل الإعلام، لا يبرر هذا التأخر، لاسيما أن الأوساط الأكاديمية تقر بدور وسائل الإعلام وتأثيرها الكبير في التحولات المجتمعية.
ويرصد الباحث بعض الدراسات القليلة والمتفرقة في هذا الموضوع، والتي اعتمدت غالبيتها على ما راكمته المدرسة الفرنسية التي اعتمدت هي بدورها كثيرا على المدرسة الأنغلوساكسونية. ويذكر بعض المحاولات التي أنجزت حول الصحافة في المغرب.
بعد هذه التوطئة التي برر بها بواعث تأليفه للكتاب، يدلج في توضيح طبيعة المساهمة التي يقدمها، فالكتاب هو عبارة عن دراسة سوسيولوجية للصحافيين المغاربة، يحاول أن يجيب عن سؤال: من هو الصحافي المغربي؟ وما السياق التنظيمي والمؤسسي لعمله؟ وما القيم التي يدافع عنها على المستويين المهني والذاتي ارتباطا بالمتغيرات السوسيولوجية؟ وما الأبعاد الرئيسة التي تشكل هويته؟ وما الخلفيات الكامنة وراء المضامين الإعلامية التي ينتجها؟
يحاول أن يستطلع ويتعرف على مسار التفاوض الدائم الذي يخوضه الصحافي عند إنتاج كل مادة إعلامية، ذلك التفاوض الذي يقصد تحقيق قدر من التوازن بين قيمه الخاصة وقيم المؤسسة ومواجهة الضغوط التي تفرضها بيروقراطيتها وبيروقراطية باقي الفاعلين في العملية الإعلامية داخل المؤسسة وخارجها، كما يهدف الكتاب إلى تقديم صورة واضحة لهؤلاء الصحافيين وخلفياتهم السوسيولوجية والأيديولوجية، وقد اعتمد الباحث في هذا السياق أربع مقاربات: مقاربة الهوية، والمقاربة المؤسسية، ومقاربة القيم المهنية، ومقاربة القيم الشخصية.
ويسعى الكتاب أن يقدم، ولو بشكل جزئي، فهما لجانب من المعادلة التي تحكم آليات انتقاء الرسائل الإعلامية ومعرفة العناصر المؤثرة فيها بعيدا عن الأحكام المتشرعة النابعة من الصور النمطية المرسومة للصحافيين.
سوسيولوجيا الإعلام والصحافيين
حاول الباحث في مقدماته الأولية أن يضع القارئ أمام جهود الآباء المؤسسين في مجال الدراسات الاجتماعية التي تقارب الإعلام، والخطاطة المعيارية للاتصال التي خلصت إليها أبحاثهم، والتراكم المعرفي الذي حصل في هذا الحقل، والذي حاول تأطير سؤال المرسل، والمضمون، والجمهور المستقبل، والتأثير، والوسيلة، ليعرج على الدراسات التي اشتغلت على سوسيولوجيا الصحفيين، والأسئلة الشائكة التي طرحها هذا الحقل البحثي، بدءا بسؤال الهوية المهنية الملتبسة للصحافي، محاولا في ذلك جمع رصيد الدراسات التي أنتجت بصدد الاقتراب من هذا السؤال، ليسجل بهذا الخصوص ندرة البحوث التي أنجزت حول الصحافيين في المغرب، إذ لم ينجز على امتداد أكثر من ثلاثين سنة (من عام 1980 إلى عام 2012) سوى 28 بحثا، و10 بحوث أخرى، خصصت لشخصيات سياسية اشتغلت في الصحافة، مع تسجيل محدودية في نوع الموضوعات التي تطرقت إليها هذه البحوث، وتشابهها في كثير من الأحيان، ليخلص إلى أن تطور الممارسة المهنية للصحافة في المغرب، لم يرافقه تراكم على مستوى البحث العلمي. ويرجع الباحث ذلك إلى طبيعة الممارسة الصحفية، وكونها كانت دائما آلية من آليات الصراع، وأداة من أدوات الإخضاع السياسي.
سجل الباحث استنادا إلى معطيات إحصائية رسمية أربع ملاحظات، وهي تراجع عدد الصحافيين، واتجاه القطاع نحو التأنيث، والتشبيب، وتباين الانتماءات الجغرافية والاجتماعية.
يسجل الباحث في إحدى خلاصات دراسته أن الخط التحريري لا يمثل أهمية خاصة بالنسبة للصحافي المغربي الباحث عن عمل، حيث أفادت حصيلة استمزاج رأي الصحافيين أن 27 في المائة من الصحافيين هم الذين يتفقون تماما مع الخط التحريري للمؤسسات التي يعملون بها، وأن 73 في المائة منهم يشتغلون مع مؤسسات لا تتوافق سياساتها التحريرية مع قناعاتهم والقيم التي يؤمنون بها.
وهذا ما يطرح حسب الكاتب إشكالية أخلاقية، غير أنه يقدم جزءا من الجواب عن هذه المفارقة، بالاستناد إلى تطور الممارسة الصحافية، من صحافة مناضلة إلى صحافة وظيفية (يقدم الصحافي مجهودا مقابل أجر).
المؤسسة في سبيل تحقيق الضبط المهني والتواؤم مع الخط التحريري، تلجأ إلى قوة الإكراه من خلال ممارسة الرقابة الاجتماعية
ويثير هذا الوضع أزمة في البناء المؤسساتي للصحافة، إذ تقدم الأرقام واقع الاغتراب القيمي داخل المؤسسة الإعلامية، والضعف الإيديولوجي والسياسي العام والإفلاس على مستوى البناء المؤسساتي، مما يدفع الصحافي إلى البحث عن المجد الشخصي أكثر من التموقع ضمن استراتيجية المؤسسة. ويسجل الباحث أيضا تباين هذا الواقع بحسب نوع المؤسسة التي يشتغل بها الصحافي، حيث يزداد الاغتراب أكثر، والفصام بين الخط التحريري للمؤسسة والقيم الخاصة للصحفي بالنسبة للصحافي الذي يشتغل بالقطعة، أكثر من الصحفي المنتظم، وفي الصحافة الرسمية أكثر من الصحافة الخاصة.
ويلاحظ الباحث أن المؤسسة في سبيل تحقيق الضبط المهني والتواؤم مع الخط التحريري، تلجأ إلى قوة الإكراه من خلال ممارسة الرقابة الاجتماعية، وذلك باعتماد آليات متعددة رسمية وغير رسمية، منها التراتبية الإدارية التي تضمن مراقبة عمل الصحافي، فضلا عن مراجعة عمله، والتقرير بشأن نشر المادة من عدمه، واستعمال نظام المكافأة والعقوبة، فيما تتجه مؤسسات أخرى إلى ممارسة رقابة مباشرة وفورية، تحكمها دوافع سياسية أو إيديولوجية أو مالية أو إشهارية، وذلك بالحذف والإلغاء أو الانتقاء.
الإشهار والإعلان وتأثيره في صياغة المادة الخبرية
يعرض الباحث في دراسته، لجانب آخر من إكراهات الممارسة الصحافية في المغرب، وهو المتعلق بالإغراء الذي يمارس عليها من أجل توجيه سياساتها التحريرية، خاصة وأن معظم المؤسسات الإعلامية تعيش عمليا على الإعلانات والإشهارات حيث أن المبيعات وحدها لا تضمن أي توازن مالي لهذه المؤسسات.
وبسبب الواقع غير المنصف في توزيع الإعلانات على المؤسسات الإعلامية، فإن الإعلان يصبح أداة فعالة في تغيير القيم التي تحكم المؤسسة، بل وحتى القيم الخاصة للصحافي نفسه، ويشير الباحث بهذا الصدد إلى أن ثلثي الصحافيين (67 في المائة) يعتقدون أن للإشهار تأثيره في طبيعة القيم التي تدافع عنها مؤسساتهم كليا (26 في المائة) أو جزئيا (40 في المائة)، مما يؤكد وجود تحكم من قبل الشركات أو الجهات المانحة للإعلان في الخطوط التحريرية للمؤسسة.
ويرى الباحث أن طبيعة الممارسة الصحافية في المغرب تجعل المؤسسات الصحفية أمام أربعة إكراهات للحصول على الإعلان، أولها ضرورة تحقيق انتشار واسع يقنع المؤسسات التجارية والمالية بتقديم الإشهار، والتزام عدم نشر ما يمكن أن يعتبر إساءة إلى الشركات التي تمنح الإشهار، وارتباط الشركات الكبرى بشبكة علاقات مع سياسيين ورجال سلطة نافذين، مما يجعل التعرض لهذه الشخصيات موجبا للحرمان من الإشهار، ثم ضرورة اتقاء غضب السلطة السياسية العليا في البلاد.
وإذا كانت المؤسسات الإعلامية تخضع في عملية ضبطها لسلطة الإكراه، فإن الصحافيين أنفسهم يخضعون للضبط، لكن بآليات ناعمة، عبر آلية الرشوة وشراء الضمير. فحسب الإفادات التي جمعتها الدراسة، فإن المنتخبين خصوصا البرلمانيين، هم الأكثر تورطا من السياسيين في دفع إغراءات في مقابل الظهور في التلفزيون. كما أفادت الدراسة أن صحافيي وكالة الأنباء هم الأقل تعرضا للإكراه، وأن الصحافيين يتعرضون للإغراء أكثر من الصحافيات، وأن أغلب القضايا التي يقع فيها الإغراء هي قضايا سياسية خاصة، مما يعكس في المحصلة تبعية الصحافي للسياسي.
أخلاقيات المهنة والامتحان الصعب
يرى الباحث أن علاقة الصحفيين بمؤسساتهم وبمحطيهم المهني تتسم بكثير من القلق والتوتر، وأن الصحفي يعيش توترا دائما بين قيمه الخاصة، وقيم المؤسسة ورغبتها في ضبطه وإخضاعه عبر آلياتها في التنشئة الاجتماعية، المعلنة والمضمرة. وتعبر نتائج الدراسة عن أن أغلب الصحافيين يميلون إلى تجاوز مهمة الإخبار إلى وظيفة الانخراط والمشاركة في القضايا التي يعالجونها، إذ يصيرون معنيين بالدفاع عن المظلومين وبالمساهمة في الإصلاح السياسي.
وتسجل نتائج الدراسة أن هذا الهم حاضر لدى الإناث أكثر من الذكور، وأنه كلما تقدم سن الصحافي كلما صار أكثر انخراطا ومساهمة في الوظيفة الرسالة. ويخلص الباحث إلى أن الصحافي يعيش في مرحلة تفاوض دائم ومستمر، وذلك للتوفيق من جهة بين انخراطه في القضايا التي يؤمن بها وحرصه على إضفاء الموضوعية على عمله المهني، وللتوفيق من جهة أخرى بين قيمه الخاصة وقيم مؤسسته.
الصحفي يعيش توترا دائما بين قيمه الخاصة، وقيم المؤسسة ورغبتها في ضبطه وإخضاعه عبر آلياتها في التنشئة الاجتماعية، المعلنة والمضمرة.