تاريخيا اعتبر نظام مبارك
تدفقات
الاستثمار الأجنبي المباشر إلى
مصر أحد مصادر العملة الأجنبية، وجاءت
الموجة الأولى من الخصخصة وما شابها من عمليات فساد واسعة ووقائع شهيرة تقاسم فيها
التنفيذيون المغانم مع المستثمرين، لتعزز من تدفقات الاستثمار الأجنبي في تلك
المرحلة.
وما لبثت أن بيعت معظم أراضي تلك المشروعات،
وجنى الأجانب بمعاونة سدنة الحكم أرباحا هائلة، ولم يقبل أي منهم بالاستمرار، مما
يشير بوضوح إلى أنه لم يكن استثمارا بالمعنى المفهوم، وأنه لا يقبل بالاستمرار في
ظل المناخ القمعي. وكان الدرس المستفاد من تلك الحقبة أن
الاستبداد هو العدو الأول
للتدفق الاستثماري الأجنبي المباشر الذي يستهدف الإنتاج الحقيقي والاستقرار في
الوطن والاستفادة من مميزاته المختلفة.
ومؤخرا أعلن عبد الفتاح السيسي عن فشل السلطة
المصرية في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر. وكعادته توجه بالحديث نحو الأوربيين في
محاولة جديدة للابتزاز، مشيرا إلى أن مصر تحارب
الإرهاب والهجرة غير الشرعية نيابة
عن العالم، لذا وجب على العالم أن يوجه جزءا من استثماراته إلى مصر.
وعمليا، فقد أولت السلطة المصرية اهتماما
كبيرا بجذب الاستثمارات بعد علم 2014، وفي سبيل ذلك أصدرت قانون الاستثمار الجديد،
وسمحت للأجانب للمرة الأولى بتملك الأراضي في سيناء، كما أصدرت قانون إفلاس
الشركات، وتبعه قانون جديد للتراخيص الصناعية؛ والتي كان المصنعون يعانون مشكلة
تاريخية معها فاختصر مدة الحصول على الترخيص إلى 30 يوما بدلا من 600 يوم، ثم
التركيز على إنشاء المناطق الصناعية، وفي بعضها مصانع جاهزة في ما يسمى تسليم
المفتاح، وقد افتتح بعضها بالفعل.
ورغم كل تلك الإجراءات إلا أن رقم الاستثمار
الأجنبي المتدفق إلى مصر شهد تراجعا خلال الفترة الماضية، حيث أشارت بيانات البنك
المركزي المصري إلى تراجعه ليبلغ نحو 5.9 مليار دولار في العام المالي الماضي، في
مقابل 7.8 مليار دولار للعام المالي السابق. وعلل المركزي هذا التراجع بارتفاع
الاستثمارات المتدفقة إلى الخارج بصورة أكبر من دخول المستثمرين الأجانب في مصر.
ولم يكن هذا هو التراجع الأول، حيث سبقته تراجعات أخرى في الأعوام السابقة.
كما كان من الملفت أن حوالي 66.5 في المئة من
هذه الاستثمارات توجه نحو قطاع الاستكشاف عن البترول والغاز، كما توجه 11.5 في
المئة إلى قطاع الخدمات، وإلى القطاع الصناعي 10 في المئة، وإلى الزراعي 1 في
المئة فقط. وتشير تلك الأرقام بوضوح إلى استحواذ قطاع الاستخراج على معظم تلك
الاستثمارات، وهو قطاع يتميز بتشابكه الضعيف مع القطاع الإداري للدولة، وكذلك بضعف
قدرته على توليد فرص العمل، وعدم نقله ونشره للتكنولوجيا المستخدمة في البيئة
المحلية. كما أنه بعيد إلى حد كبير عن دائرة الدخل القومي، وبالتالي يمكن القول
بمحدودية آثاره الاقتصادية إلى حد كبير.
ومن الواضح أن تأثير هذا التراجع لتدفقات
الاستثمار الأجنبي كان مخيبا لآمال السلطة، لا سيما في تعويض مظهرها المهترئ أما
الجماهير بعد فشل مؤتمر الاستثمار بشرم الشيخ، بعدما روجت وسائل الإعلام التابعة
للنظام لجذبه مئات المليارات من الدولارات إلى مصر.
ظهرت خيبة أمل النظام للعلن في تصريحات السيسي
التي حاول فيها ابتزاز الجانب الأوروبي، وفي محاولة وزيرة الاستثمار التلاعب
بالمعادلة الحسابية التي يحتسب رقم الاستثمار الأجنبي على أساسها، والتي أعلنت
أكثر من مرة أن الرقم المعلن على أساسها لا يعبر عن الحقيقة.
وأخيرا جاء التعديل الوزاري الأخير ليلغي
وزارة الاستثمار ويطيح بالوزيرة، ويحيل ملف الاستثمار الأجنبي إلى رئيس الوزراء
بصورة مباشرة، في إجراء وصفه البعض بأنه إدراك من السلطة بأهمية الملف، والفشل
السابق به، وهو الأمر الذي أوجب تصعيده إلى أعلى المستويات.
وفي الحقيقة أن فشل مصر في جذب الاستثمارات
الأجنبية كان له العديد من الأسباب، ومن أهمها ضعف الطلب الاستهلاكي المحلي خاصة
بعد تعويم الجنيه، ورفع أسعار الطاقة والكهرباء، مما ساهم في تزايد معدل الفقر
والذي وصل إلى حدود 60 في المئة تقريبا من المصريين، بالإضافة إلى الاضطرابات
التجارية الدولية، علاوة على مزاحمة الجهات السيادية للقطاع الخاص في النشاط
الاقتصادي، إضافة إلى التعنت البيروقراطي وانتشار الرشوة والمحسوبية والفساد، وضعف
تأهيل ومهارات العاملين بسبب تلاشي الاهتمام بالمنظومة التعليمية الوطنية.
ورغم كل الأسباب السابقة إلا أن الاستبداد من
وجهة نظري يبقى العامل الأساس في فشل المنظومة الاقتصادية المصرية بصفة عامة، وجذب
الاستثمار الأجنبي على وجه الخصوص. فالاستبداد هو الأب الشرعي لهيمنة الجهات
الأمنية على تراخيص الأنشطة الاقتصادية، وهو الذي يفتح أبواب الرشوة والفساد، كما
يضعف السلطة القضائية وحمايتها للمستثمر الأجنبي.
كما أن الاستبداد يحاول الاستئثار بالسلطة على
كافة مجالاتها، والثروة بأنواعها المختلفة، وذلك مما يدرسه المستثمر الأجنبي جيدا،
فهو يعرف أنه ليست أمواله فقط بل ربما سلامته الشخصية عرضة للخطر في دهاليز ذلك
المستبد وأعوانه. فكما أن قرب المستثمر من دائرة الاستبداد قد تفتح له أبواب
الثروات الهائلة، إلا أنه يعي تماما أن نار الاستبداد قد تحرقه وأمواله وربما
عائلته في أية لحظه.
وتوجد شواهد على النتيجة السابقة التي تلخص
السبب الرئيس في فشل جذب الاستثمار الأجنبي إلى مصر في ظاهرة الاستبداد، ومنها
نجاح مصر في جذب الأموال الساخنة (الاستثمار الأجنبي في أدوات الدين المحلية)،
وذلك رغم المنافسة الشرسة على تلك الأموال بين مجموعة من أسواق الدول الناشئة، وهو
ما ساهم بقوة في تحسن أداء الجنيه المصري أمام الدولار في الفترة الأخيرة. كما أن
تدفق الاستثمار الأجنبي إلى قطاع الاستخراج يعد شاهدا آخر، ونجاح الاكتتاب في
سندات الخزانة بالعملة الأجنبية في الأسواق الدولية، والحصول على أرقام أضعاف
المطلوب يمكن اعتباره شاهدا كذلك.
ومن وجهة نظري فإن الخيط الرئيس الذي يجمع ما
بين الشواهد السابقة، هو عدم التشابك مع السلطة في أي منهم، فجميعهم بعيدون بشكل
أو بآخر عن تحكم السلطة واستبدادها، وتحكمه وتحميه قوانين دولية، وشركات وبنوك
عالمية؛ دائما ما تتآكل قدرات الاستبداد في مواجهتها، وهو ما يفسر ببساطة نجاح مصر
في الاعتماد عليها وعدم تراجعها خلال الفترة الأخيرة، في مقابل تراجع الاستثمار
الأجنبي المباشر الذي يتشابك مع السلطة بداية من التراخيص ومرورا بالإنتاج،
وانتهاء بالبيع المحلي أو التصدير، مما يجعله كليا تحت سيطرة المستبد وتقلب أهوائه.
وبناء على ما سبق يمكن القول إن . وأعتقد أن
النصائح الاستشارية من الدول ومن بيوت الخبرة الخاصة هي من تعطل قدوم الاستثمار
إلى مصر، وبالتالي ليست المشكلة فيمن يدير الملف، وإنما في الحالة المصرية
الاستبدادية، فهل تعي السلطة ذلك؟