وصف وزير الداخلية الألماني الحادث العنصري في مدينة هاناو الخميس الماضي (20 شباط/ فبراير) بأنه اعتداء إرهابي بدافع عنصري، بشكل قاطع ونهائي، وقال إن الخطورة التي يشكلها التطرف اليميني ومعاداة السامية والعنصرية على ألمانيا وعلى الديمقراطية كبيرة للغاية.
عدد المسلمين في ألمانيا يقترب من الخمسة ملايين، وفيها حوالي 2500 مسجد. وتمثل ألمانيا مركز جذب كبير لأبناء العالم العربي والإسلامي، خاصة في المجال التعليمي المتميز، لكن
العنصرية التي تصل الى حد الإرهاب تتصاعد في
أوروبا كلها الآن، ولها خطاب متماسك وأحزاب وقادة وشبكات إعلامية مؤثرة، وهم يحذرون من خطر يرونه حقيقيا يهدد حضارتهم وثقافتهم جراء تغلغل الإسلام وانتشاره. وكثير من الكتابات تصرخ بأن أوروبا ستصبح ذات أغلبية من المسلمين خلال قرن على الأكثر إذا استمرت زيادة أعداد المسلمين بنفس المعدل. يحدث هذا بالتوازي مع تراجع فكرة الزواج ومسؤولياته، وثقافة تكوين أسرة كقيمة اجتماعية وأخلاقية وحضارية لدى الشباب الأوروبي.
ونعرف جميعا حركة "بيغيدا" التي تعبر عن تلك الأفكار بكل وضوح، واسمها الكامل الأوروبيون الوطنيون ضد أسلمة الغرب". وتنتشر بشكل أساسي في مدينة درسدن، وهي تتبنى القيم اليهودية المسيحية المشتركة كنسق ديني واحد، وأحيانا ترفع علم إسرائيل في اجتماعاتها وندواتها التي يحضرها ويتحدث فيها إسرائيليون أيضا.
* * *
في النهاية نحن أمام خطاب أيديولوجي عنصري وأحيانا سياسي "حزب البديل/ ألكسندر جاولاند" هذا الخطاب قد يبقى قليلا أو كثيرا، ولن يلبث حتى يفقد حرارته ويزول ويختفي.. لماذا..؟ لأن هناك في الضمير والوجدان والعقل الألماني بل والأوروبي ما هو أقوى وأعمق وأقوم وأرفع وأسمى وأكثر خلودا وإشراقا.. هناك من أنطق الأشياء بما فيها وبما ليس فيها أيضا.. هناك من قال: "إذا كان الإسلام معناه التسليم لله فعلى الإسلام نحيا ونموت جميعا". إنه فيلسوف ألمانيا وعقلها الجميل وروحها الخالدة جوتة (1749-1832)، مَنْ منا لم يبكِ مع فرتر وعليه؛ وهو يسكب دموع أحزانه على حبيبته شارلوت في رائعتة الروائية "آلام فرتر"؟!
من منا لم يأسَ ويأسف على صفقة الدكتور فاوست البائسة الخاسرة في مسرحيته الشهيرة بنفس الاسم؟!
إنه ابن فرانكفورت الذي شغف بالإسلام وشريعته والقرآن وبلاغته، ومحمد ورسالته.. اسمعوا لجوتة وهو يصور شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: "كنهر بدأ يتدفق رفيقا رقيقا هادئا ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد، فيتحول في عنفوانه إلى سيل عارم يجذب إليه جميع الجداول والأنهار المجاورة ليصب الجميع في زحفها الرائع في بحر المحيط...". ويقول أيضا: "محمد نبي مرسل لغرض مقدر مرسوم، يتوخى إليه أبسط وسيلة وأقوم طريق، وهو إعلان الشريعة وجمع الأمم من حولها. فالكتاب المنزل على محمد إنما بعث للناس ليحفزهم للإيمان بالله".
* * *
تقول الحكايات إن نابليون دعاه للإفطار معه ذات صباح على مائدته التي جمع عليها كبار قادة جيشه بعد احتلاله ولاية فيمار الألمانية وسأل الجنرال جوتة عن كتاب "محمد والتعصب" لفولتير (مواطنه)، والذي يصور الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه "سفاك للدماء غادر لا خلُق له"، فبرر جوتة ذلك بأنه كان مجرد تَمويه لمهاجمة الكنيسة دون الوقوع تحت طائلة الرقابة القانونية، وهو ما وافقه عليه نابليون. وانتهى الحديث الذي اقترب من الساعة، وبمجرد خروج جوتة التفت نابليون إلى من معه قائلا عبارته الشهيرة: "إنه إنسان".
سيكون هاما هنا أن نذكر بأن فولتير انتقل 180 درجة مغادرا رأيه هذا (أيا ما كانت دوافعه)، فيقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن دينه حكيم وصارم وطاهر وإنساني، حكيم لأنه لا يسقط في جنون الإشراك بالله وليس فيه طلاسم، وهو صارم لأنه يحَرم القمار والخمر ويأمر بخمس صلوات في اليوم، وهو طاهر لأنه يحدد عدد الزوجات بأربع، وهو إنساني لأنه يأمر بالصدقة أكثر من ما يأمر بالحج. وأضيفت إلى خصائص الحق هذه سمة أخرى هي التسامح.. كل هذه الشرائع الحازمة وهذه العقيدة البسيطة جلبت للإسلام الاحترام والثقة، وخاصة عقيدةَ التوحيد التي تخلو من التعقيد، بل هي مناسِبة تماما للعقل الإنساني. كل هذا جعلَ عددا كبيرا من الأمم تعتنق هذا الدين، من سود أفريقيا إلى جزر المحيط الهندي". انتهى كلام فولتير.
* * *
كان جوتة في حقيقة الأمر يشعر بعاطفة عميقة تجاه الإسلام، ورأى في النبي الكريم صلى الله عليه وسلم نموذجا للنبي صاحب الرسالة الخالدة الذي نشر رسالته بالكلمة والعمل والجهاد، ورأى في عقيدة الإسلام ما يتفق مع آرائه وأفكاره وتصوراته ومذهبه في الحياة، وأكثر ما لاقى في قلبه ووعيه من قبول وتوافق وهوى ذلك التسليم المطلق لمشيئة الله تعالى وعقيدة التوحيد (كما أغلب فلاسفة الغرب) التي تدعو إلى الخضوع والتسليم لله الواحد، وتحرر الإنسان من كل صنوف العبودية لغير الله سبحانه.
جوتة له مؤلف شهير اسمه "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي"، وتجلت في سطور هذا الكتاب روح الإسلام ونبيه الكريم في أنقى وأروع الصور والمعاني، وما كان لفيلسوف بقيمة وقامة عبد الرحمن بدوي (1917-2002م) أن يمر على هذا المؤلف العظيم مرورا عابرا، وهو الابن البار لمدرسة الفلسفة الألمانية، فترجم الكتاب وكتب له مقدمة إضافية مع شروح وتعليقات عليه.
توفي جوتة ولم يكن قد نشر بعد إحدى أجمل وأروع قصائده في حب النبي "بعثة محمد" التي عثر عليها تلاميذه وأصدقاؤه، يصف فيها برهافة صادقة اللحظات الأولى لتلقي الرسول الكريم الوحي والنبوة يقول فيها: "حينما كان يتأمل في الملكوت، جاءه الملاك على عجل، جاء مباشرة بصوت عالٍ ومعه النور، اضطرب الذي كان يعمل تاجرا، فهو لم يقرأ من قبل، وقراءة كلمة تعني الكثير بالنسبة له، لكن الملاك أشار إليه وأمره بقراءة ما هو مكتوب، ولم يبالِ، وأمره ثانية: اقرأ، واستطاع القراءة، واستمع الأمر وبدأ طريقه..". صلى الله عليه وسلم، هكذا هي صورة نبي الإسلام في عقل ووجدان أحد أهم العلامات في الفكر الأوروبي والغربي كله.
إن عاجلا أو آجلا.. سيدرك الغرب كله أن الإسلام هو دين التكريم الإلهي للإنسان وحياته وحقوقه في هذه الحياة، أيضا واجباته، وستتضاءل وتتلاشى خطابات
الكراهية والعنصرية، فالفطرة أهدى من العقل كما يقول روسو، والإسلام هو ينبوع الفطرة الانسانية كلها.