هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"داعية
الإسلام، وحارس تعاليمه"، هكذا نعته العالم والمفكر الإسلامي المصري محمد الغزالي.
كما وصفه المفكر طارق البشري بـ "البلدوزر"؛
فقد كان من أكبر وأهم المدافعين المعاصرين عن
الإسلام، وكان شديد البأس على أعداء الإسلام والعلمانيين الاستئصاليين والمتطرفين،
وكان عونا لكل باحث في الفكر الإسلامي.. إنه المفكر الإسلامي وعضو هيئة كبار علماء
الأزهر، محمد عمارة، الذي
رحل عن عالمنا، مساء الجمعة، بعد رحلة وجيزة مع المرض.
"بداية المسيرة"
بدأت مسيرة محمد عمارة مصطفى عمارة
العلمية بريف مصر في قرية صراوة بمركز قلين في محافظة كفر الشيخ (شمالي القاهرة)،
والتي وُلد فيها في 8 كانون الأول/ ديسمبر 1931، حيث حفظ القرآن الكريم. وكانت
فترة القرية هي فترة التكوين الفكري والتعليمي والروحي بالنسبة له.
وكان أول كتاب يقرأه وتأثر به، من خارج
الكتب المدرسية، هو "النظرات" للأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي. ثم
بدأت تتفتح وتنمو اهتماماته وتتسع مداركه الوطنية والعربية، وهو صغير السن. وأصبح
يلقي خطب صلاة الجمعة في مسجد قريته الصغيرة، وكان يتدرب على تلك الخطب في الحقل
الزراعي الذي كانت تمتلكه أسرته "الأمية".
حصل على الليسانس في اللغة العربية
والعلوم الإسلامية بعد تخرجه في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة 1965، ثم حصل على
الماجستير في العلوم الإسلامية عام 1970، والدكتوراه في العلوم الإسلامية تخصص فلسفة
إسلامية عام 1975 بذات الجامعة.
وأنضم "عمارة" إلى حزب
"مصر الفتاة" الذي نشأ في الثلاثينات، وعُرف بتوجهه العروبي والثوري،
وكرّس نشاطه دفاعا عن العرب ومحاربة الاستعمار والإقطاع. وكتب "عمارة"
في صحيفة "مصر الفتاة" أول مقال له بعنوان "جهاد عن فلسطين". وكتب
أول كتبه عام 1957 عن القومية العربية ومؤامرات أمريكا ضد وحدة العرب في مواجهة
فكر يساري ينكر وجود أمة عربية.
اقرأ أيضا: "عربي21" تنعى المفكر محمد عمارة.. وتنشر أرشيف مقالاته
"الانضمام لليسار"
رغم تكوينه
الأزهر، وأصوله ونشأته الإسلامية، إلا أن "عمارة" تأثر كثيرا بالتيار
والفكر اليساري الذي دائما ما كان يتحدث حينها عن العدالة الاجتماعية، ويحمل همّ القضايا الوطنية، ورفض الوجود الأجنبي، ومحاربة الإقطاع، وكان يدافع عن تلك
القضايا بقوة واستماتة. وبعد إلغاء الأحزاب
في أعقاب ما سُمي بثورة 23 تموز/ يوليو 1952، أنضم لليسار المصري، وهو زعيم طلابي،
من باب القضايا الاجتماعية والثورية.
"تحولات فكرية"
كان من تبعات ارتباط "عمارة"
باليسار، أن تم فصله من الجامعة لمدة عام بعد تزعمه مؤتمرا وطنيا قوميا، وتم اعتقاله
نحو 6 أعوام تعرض خلالها للتعذيب والإهانة والحرمان، الأمر الذي أدى لتأخر تخرجه
من الجامعة لسنوات، وخلال فترة سجنه ألّف 4 كتب عن العروبة، وقضايا الأمة،
وإسرائيل، وقام بنشرها بعد خروجه من المعتقل.
كما أنه راجع أفكاره داخل محبسه، وأدرك أن الحل للقضية
الاجتماعية –التي بسببها أنضم لليسار- في الإسلام، وليس الصراع الطبقي الذي تتحدث
عنه تلك التيارات اليسارية.
ووصف
"عمارة" هذا الانعطاف نحو اليسار بأنه يشبه "بعثة إلهية مقصود بها
معرفة الآخر، ليكسر بها شوكة هذا الآخر فيما بعد، وهو ما جلب عليه الكثير من
العداء من قبل التيارات العلمانية واليسارية، لأنهم كانوا "دفنينوا
سوا"، بحسب تعبيره، أي أنه يعرف حقائق أفكارهم وأسرارهم.
ويرى الكاتب طارق
منينة، مؤلف كتاب "أقطاب العلمانية"، في تصريح لـ"عربي21"، أن
تلك "البعثة الإلهية" جعلت "عمارة" يطلع على الفكر المادي
الغربي، وجعلت نقده وردوده متينة للغاية ومن أقوى الردود، وقد كان من الصعب أن يقوم
"مفكر إسلامي بمثل هذا النقد وهو لم يطلع على عمق الفكر المادي وخصوصا الماركسي الذي كان يريد تحويل عالم الإسلام إلى عالم اشتراكي،
الأمر الذي جعله يفهم بعمق حقيقة العلمانية، حيث كان دارسا ومُعايشا لهذا الفكر
الذي أدرك مختلف أبعاده وجوانبه".
وفي سياق تلك
التحولات، قال "عمارة" – خلال إحدى نداوته- إنه أتيحت له فرصة الاطلاع
على الجانب الآخر، فأصبح يمتلك قدرة على الموازنة بين الإسلام والآخر، وكان هذا
جزءا من مشروعه الفكري، وجزءا من اهتمام الإسلاميين بمشروعه، وجزءا من كراهية
اليساريين والعلمانيين لمشروعه الفكري، وذلك بعدما أصبح لديه القدرة على أن يرى
الإسلام في ضوء الآخر، ويرى الآخر في ضوء عظمة الإسلام.
وأضاف منينة أن "شجاعة
المفكر العظيم محمد عمارة لم تكن فقط ضد انقلاب السيسي وتأييده لثورة يناير، بل
كانت أيضا في التراجع عن الأخطاء الفكرية التي وقع فيها وقام بتصويبها لاحقا، ومضي
قدما يُبيّن المنهج الإسلامي الصحيح، وسار على درب أسلافه جمال الدين الأفغاني،
وحسن العطار، ورفاعة الطهطاوي، وحسن البنا".
ويرى
"عمارة" تحولاته الفكرية بأنها كانت تجديدا، ونضجا، وتطورا فكريا،
وبالتالي كانت ميزة، وفضيلة، ودليل على الحيوية، لأن من لا يراجعون أفكارهم، من وجهة نظره، هم الجمادات والموتى، بينما يظل
الإنسان يراجع أفكاره طالما أن لديه جديد.
تطورات "عمارة"
الفكرية جعلته يُنصف جماعة الإخوان المسلمين وإمامها حسن البنا بعد أن كان له موقفا
مختلفا منهم في الماضي، وساهمت في تغيير موقفه من أبي الأعلى المودودي، وجعلته يتبنى
موقفا إيجابيا من شيخ الإسلام ابن تيمية ورده إلى مكانته العلمية.
وفي دفاعه عن ابن
تيمية، قال "عمارة": " لو أن المشروع التجديدي لابن تيمية قد وجد (الدولة
والسياسة) التي تنهض به، لتغير وجه العالم الإسلامي ووجهته، ولاختصرت الأمة من عصور
التراجع الحضاري عدة قرون. لقد كان ابن تيمية إمام الناقدين والناقضين للفكر اليوناني-منطقا
وفلسفة- ومن أبرز الذين اجتهدوا لإبداع البديل الإسلامي لفكر اليونان".
ومع تلك التحولات الفكرية التي مر بها
"عمارة" خلال مسيرته العريقة، ظلت قضيتي "الحرية وتحرير
الوطن"، و"العدل الاجتماعي"، هما القضيتين اللتين لازمتاه منذ
ولادته وحتى مماته.
وقال عنه المفكر الإسلامي
محمد عباس إن "محمد عمارة هو واحد من كوكبة لامعة صادقة هداها الله فانتقلت من
الفكر الماركسي إلى الإسلام، وكانت هذه الكوكبة هي ألمع وجوه اليسار فأصبحت ألمع وجوه
التيار الإسلامي، ودليلا على أن خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام".
"التفرغ
للعمل الفكري"
في أيار/ مايو
1964، تفرغ "عمارة" للعمل الفكري، وترك العمل السياسي بشكل نهائي،
واعتبر ذلك من أهم القرارات التاريخية التي أتخذها في حياته، لأنه "لو كان
لدينا 100 عالم ومفكر في العالم الإسلامي عكفوا على العمل الفكري فقط لتغير وجه
الحياة الفكرية في واقعنا المعاصر"، حسبما يقول.
ويؤكد
"عمارة" أن المشتغل بالفكر، بهذا المستوى من الصناعة الثقيلة للفكر، يجب
ألا يكون مُرتبطا بأي حكومة من الحكومات أو بأي حزب من الأحزاب، كي يكون مُتحررا
من قيود أي تنظيم. وقد كان لديه إصرارا كبيرا على الاستقلال الفكري.
ألّف "عمارة"
أكثر من 250 كتابا، وضمت مكتبته أكثر من 4 آلاف كتاب، بها كنوزا من الفكر والعلم بأشكاله
المختلفة. وحصل على العديد من الجوائز والأوسمة والشهادات التقديرية والدروع، منها
"جائزة جمعية أصدقاء الكتاب، بلبنان سنة 1972"، وجائزة الدولة التشجيعية
بمصر سنة 1976، ووسام التيار الفكري الإسلامي القائد المؤسس سنة 1998.
حقق لأبرز أعلام اليقظة الفكرية الإسلامية
الحديثة، جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وألّف الكتب والدراسات
عن أعلام التجديد الإسلامي مثل: الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا، والشيخ محمد الغزالي،
ورشيد رضا، وخير الدين التونسي، وأبو الأعلى المودودي، وسيد قطب، وحسن البنا، ومن أعلام
الصحابة علي بن أبي طالب، كما كتب عن تيارات الفكر الإسلامي القديمة والحديثة وعن أعلام
التراث مثل غيلان الدمشقي، والحسن البصري.
وقد أسهم في العديد من الدوريات الفكرية المتخصصة،
وشارك في العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية، ونال عضوية عدد من المؤسسات الفكرية
والبحثية منها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والمعهد العالي للفكر الإسلامي.
وقد اتسمت كتاباته وأبحاثه التي أثرى بها المكتبة
العربية بوجهات نظر تجديدية وإحيائية، والإسهام في المشكلات الفكرية، ومحاولة تقديم
مشروع حضاري نهضوي للأمة العربية والإسلامية في المرحلة التي تعيش فيها.
"مناظرات فكرية"
فنّد "عمارة" الكثير من الأفكار العلمانية
التي تستهدف النيل من الإسلام، خلال العديد من المناظرات الفكرية الشهيرة التي
جمعته ببعض أقطاب العلمانيين المصريين، مثل فرج فودة، ونصر حامد أبو زيد، ونوال
السعداوي، وفؤاد زكريا، وكمال زاخر، ومحمد أحمد خلف الله، وحمدي الأسيوطي.
وكانت أشهر مناظراته الفكرية هي مناظرة "مصر بين الدولة
المدنية والدينية"، وكان معه فيها الغزالي، والقرضاوي، ومأمون الهضيبي، وكان أمامه
فرج فودة ومحمد أحمد خلف الله.
وأما مَن لم يطاله "عمارة" في مناظرة شفهية، وجها
لوجه، فقد قدر عليه في نقد كتابي مثل كتابه عن الفيلسوف محمد عابد الجابري –"رد
افتراءات الجابري"- وحسن حنفي، ونصر أبو زيد، ومراد وهبة، مثل كتابه "خطر
النزعة التاريخية على ثوابت الإسلام"، بل رد على العلماني عبد الكريم سروش وتلاميذه
في كتابه "التأويل العبثي للوحي والنبوة"؛ فلم يترك أحد من غلاة العلمانيين
إلا ورد عليهم وفنّد أقاويلهم.
وكتب "عمارة" كثيرا عن الحضارة الإسلامية ومقارنتها
بالغربية، وتكلم عن الغزو الاستعماري في كتب كثيرة، ومنها معارك العرب ضد الغزاة.
ويضيف الكاتب طارق منينة: " كما حاول عمارة قدر طاقته
استرجاع العلماء الذين احتال العلمانيون فنقلوهم إلى المعسكر العلماني؛ فكتب الكتب
الموثقة المعلومات ليبين أن رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، والأفغاني، والكواكبي، والسنهوري
باشا، بل وحتى طه حسين في نهاية حياته، وغيرهم، هم في المعسكر الإسلامي وليس العلماني".
واستطرد قائلا: "لقد اتصلت منذ سنة بالدكتور عمارة لأستفهم
منه عن تحريف العلمانيين لمناظرة الأفغاني للفيلسوف الفرنسي رينان، وكيف أنهم جعلوه
منهزما أمام رينان، بل ومؤيدا له في نقد الإسلام نفسه، فأخبرني أنه رد على تلك التلاعبات
في كتابه الأعمال الكاملة للأفغاني، وبالفعل وجدت كلامه موثقا".
وأردف: "لله در عمارة فقد كتب عن حسن العطار مآثره وفقهه،
وعن علي مبارك خططه وعمرانه وصلته بفترة ازدهار حضارتنا، وعن عبد الله النديم ثوريته
ووقوفه للتغريب، وعن مصطفى كامل وطنيته وإسلاميته، وغيرهم في كتب مهمة خصصها لهم، وله
كتاب شخصيات لها تاريخ، فعمل وصلة علمية وفقهية حضارية بين الماضي والحاضر، بين الأجداد
والأحفاد، بين النقاد القدامى والنقاد الجدد، وجمع تراث كثير منهم في موسوعات هائلة".
"تأييد ثورة
يناير"
عقب اندلاع ثورة
25 يناير 2011، وخلال الأيام الأولى للثورة، أصدر "عمارة"، بالاشتراك مع
علماء آخرين، بيانا للخروج من الأزمة أعلنوا فيه بوضوح انحيازهم للثورة ضد نظام "مبارك".
وقال
"عمارة"، في تصريحات إعلامية، إن عشرات الملايين من المصريين تحركوا في
ثورة يناير، وهذا أعظم استفتاء شعبي تم في أي ثورة من ثورات العالم؛ فلا توجد ثورة
تحركت فيها كل المدن والقرى في كل المحافظات، منوها إلى أنه "لم تتحرك الأمة
في مواجهة حاكم مثلما تحركت في مواجهة حسني مبارك".
وأضاف:
"إننا أمام ثورة شعبية من أعمق الثورات الشعبية التي عاشتها مصر في العصر الحديث.
هذه الملحمة والثورة الشعبية كشفت الغبار والمعدن الحقيقي لهذا الشعب الأصيل".
وأكد أن "هذه
الثورة في شعبيتها أوسع انتشارا وأعمق انتصارا، وهذا النظام نظام متهاوٍ، وأنا أقول
إن قضيتنا ليس في إسقاط مبارك، لكن إسقاط نظام مبارك، هذا النظام الذي عاث فسادا على
مر ثلاثة عقود، هذا النظام الذي وصفته إسرائيل بأنه الكنز الاستراتيجي لأمن إسرائيل،
هذا عار على مصر لا بد أن يُزال".
"الموقف من
الانقلاب"
وفي 13 تموز/
يوليو 2013، أصدر "عمارة" بيانا شهيرا يصف ما حدث في 3 تموز/ يوليو بأنه
انقلاب عسكري على التحول الديمقراطي الذي فتحت أبوابه ثورة يناير، مؤكدا أن "هذا
الانقلاب العسكري إنما يعيد عقارب الساعة في مصر إلى ما قبل ستين عاما، عندما قامت
الدولة البوليسية القمعية، التي اعتمدت سبل الإقصاء للمعارضين، حتى وصل الأمر إلى أن
أصبح الشعب المصري كله معزولا سياسيا، يتم تزوير إرادته، ويعاني من أجهزة القمع والإرهاب".
وأكد عمارة أن "هذا
المسار ـ الذي فتح هذا الانقلاب أبوابه ـ لن يضر فقط بالتحول الديمقراطي للأمة، وإنما
يضر كذلك بالقوات المسلحة، وذلك عندما يشغلها عن مهامها الأساسية، وفي الهزائم التي
حلت بنا في ظل الدولة البوليسية عبرة لمن يعتبر".
وأضاف أن ما
"يزيد من مخاطر هذا الانقلاب، أن البعض يريده انقلابا على الهوية الإسلامية لمصر،
التي استقرت وتجذرت عبر التاريخ، وفي هذا فتح لباب الفتنة الطائفية التي ننبه عليها،
ونحذر من شرورها"، مشدّدا على أن عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي بـ
"الانقلاب العسكري باطل شرعا وقانونا، وكل ما ترتب على الباطل فهو باطل".