ألغامٌ في اتفاقِ بوتين-أردوغان بشأن إدلب

خيراً فعل الروس والأتراك بأن توصلا إلى اتفاق أعلناه مساء الخميس 5 آذار (مارس) الجاري من موسكو بشأن إدلب السورية، ورغم أنه يشبه حقل ألغام إلَّا أنه قد يسمح بالتوصل إلى تفاهم أعمق وأوسع يساعد على كشف حقول ألغام كثيرة مبثوثة في القضية السورية "عسكرياً وأمنياً وسياسياً" على الخصوص. 

 

إعلان مقتضب

لقد كان إعلاناً مقتضباً من ثلاث نقاط: وقف إطلاق النار في خطوط التماس الحالية ومراقبة تنفيذه ـ تسيير دوريات مشتركة "روسية-تركية" على طريق حلب اللاذقية "إم 4" بين "ترنبة وعين الحور" وتحديد مساحة عازلة على جانبيه بعمق ستة كيلومترات. 

ويبدو بوضوح أن هذا ما سمحا بإعلانه مما اتفقا عليه وأرادا إظهاره من توافق ألزمتهما به مصالحهما المشتركة الواسعة والواعدة، والحقائق العسكرية والأمنية على الأرض، والأوضاع الإنسانية للمدنيين السوريين، والمناخ السياسي الدولي المحيط بهذا المستجد وبالقضية السورية كلها.. وقد كانا أمام حقيقة أنهما لو لم يتفقا على أمور جوهرية بهذا الشأن ويعلنا وقف إطلاق للنار على الأقل، فإنهما سينهيان مسار "آستانا ـ سوتشي"، ويخسران سياسياً واقتصادياً خسارات لا يطيقانها ولا يريدانها، ومشاريع استراتيجية ومستقبلية كبيرة، وستدور بينهما عجلة انعدام الثقة كجارين وكطرفين في علاقة لا يرغب فيها حلف شمال الأطلسي ويحاربها الأمريكيون علناً، وسيدخلان وتدخل المنطقة كلها في مرحلة من الحرب تدور "بالأصالة والوكالة"، وتتسع دائرتها وتجر إليها أطرافاً أخرى.. وهذا ما يريده الأمريكيون ويعملون عليه ويتبعهم في ذلك الأوروبيون وغيرهم من الأتباع. 

وهناك خلافات بين الروس الأتراك يركز عليها الأمريكيون للوصول إلى ما يريدون الوصول إليه مما يجعل تركيا في موقع تجاذب بين طرفين قويين.. وقد أشار الرئيس بوتين إلى تلك الخلافات بإيجابية، حيث قال في المؤتمر الصحفي مع أردوغان: "لسنا دائما متفقين مع شركائنا الأتراك في تقديراتنا للأحداث الحاصلة في سوريا، لكننا ننجح كل مرة في اللحظات الحيوية، اعتماداً على المستوى العالي في العلاقات الثنائية بيننا، في إيجاد نقاط مشتركة حول القضايا الخلافية، وفي التوصل إلى قرارات مقبولة. وهذا ما حصل هذه المرة أيضاً".

 

اختبار صعب

لقد توقف إطلاق النار لكنه قد لا يصمد، والطرفان المعنيان الآن أمام اختبار أكثر من صعب:
 
ـ  فما أعلن من الاتفاق يظهره هشاً أو حقل ألغام كما أسلفت.
 
ـ وما تم التلميح إليه أو التصريح به في كلمتي الرئيسين بوتين وأردوغان يوحي باختلاف المواقف والرؤى حول أمور تكررت الإشارة إلى وجودها وهي تتفاعل بصورة سلبية في أوقات وحوادث، وتظهر مفاعيل ذلك وتأثيراته بقوة وحدة من آن لآخر بين الطرفين وتؤدي إلى توتر ترافقه تحركات وإجراءات وتعاملات متبادلة، وإلى تقاطعات واتهامات وتصريحات ذات مضامين ودلالات وانعكاسات شديدة السلبية.
 
ـ وما أشير إلى أنه إجراءات ستتخذ، وتواصل عسكري وتنسيق وثيق بين الطرفين مستمر، وحوار سياسي قائم، يشير إلى وجود ما اتُّفِقَ عليه مما لم يعلن عنه، وسيعالجه الطرفان في متابعاتهما حول الموضوع.. فقد قال الرئيس أردوغان: "سنحقق وقف إطلاق النار في إدلب في أقصر وقت ممكن ومن ثم سنتخذ سويا خطوات سريعة أخرى في هذا الشأن.. إن الحاجة إلى خلق حالة جديدة باتت أمراً لا مفر منه". 

 

هناك خلافات بين الروس الأتراك يركز عليها الأمريكيون للوصول إلى ما يريدون الوصول إليه مما يجعل تركيا في موقع تجاذب بين طرفيين قويين

وإذا قاربنا المعلَن من الاتفاق من هذه الزاوية، وليس لنا إلا أن نفعل ذلك، وجدنا أننا أمام وضع مشكل فيه ما يهدد الاتفاق المعلن والنيات الحسنة والمدنيين البائسين والمنطقة:
 
فالاتفاق المعلن أوقف إطلاق النار وأبقى على الحرب في الوقت ذاته وفي المنطقة ذاتها.. ومن ثم بقيت مشكلاتها وانعكاساتها العسكرية والسياسية والإنسانية.. فالحرب على الإرهاب مستمرة، وهناك مواقع مراقبة تركية تداخلت حدودها وتداخل وجودها مع الإرهابيين كما أشار الروس.. وهناك تموضع عسكري في إدلب وريفها للقوى المتقاتلة يجعل المدنيين أهدافاً سهلة فيهربون ـ هذا إن هم استطاعوا الهرب ـ وتبقى مأساتهم التي تتعاطف معها كل الأطراف، وتتهم بعضها بعضاً بتسبيبها، وتتاجر بها ويقول كل طرف إن الآخر يسبب ذلك أو يدعيه، ويقول أردوغان بأن هرب السوريين باتجاه تركيا يرهقها ويهدد أمنها وعليها أن تمنع ذلك. ففي هذا الوضع من ذا الذي يملك أن يمنع المسلحين من استخدام السلاح ونقض الاتفاق، ومن ذا الذي يمنع الرد عليهم ومن ثم استئناف القتال؟!

 

تحديات على الأرض

وهناك في أرض الواقع مواقف معلنة منها: الموقف السوري في الإعلان المؤكد من جانبه والمعزز من الجانب الروسي، بأن الجيش العربي السوري يحارب على أرضه من أجل وحدة وطنه أرضاً وشعباً، ومن حقه بل من واجبه أن يقاتل الإرهابيين المعلنين بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي وأن يخرجهم من إدلب وغيرها، وأن التذرع بالمدنيين وبالجانب الإنساني ليس مقبولاً للحيلولة دون استمرار الحرب على الإرهاب. 

وهناك أيضاً إعلان من الدولة السورية بأن من حقها أن ترد على من يحتلون أرضها وتخرجهم منها وفي هذا إشارة صريحة إلى أن الوجود التركي احتلال، واتهام لتركيا بأنها تدعم الإرهابيين وتقاتل معهم.. وهناك موقف روسي ثابت يدعم سوريا في إجراءاتها.. وموقف تركي ثابت أيضاً يتمسك باتفاق "أضنة" وما يتيحه من تدخل ودخول عسكري لمسافة خمسة كيلومترات في الأراضي السورية لمحاربة الإرهاب، وهي إشارة إلى "حزب العمال الكردستاني وملحقاته وتشمل غير ذلك"، ويتمسك باتفاق سوتشي وبالاتفاق مع الأمريكيين ومع الروس فيما يتعلق بأمنها والمناطق الآمنة للمدنيين ومصالحها حيث تدخل وتتدخل لمسافة 30 كم في الأراضي السورية لتحقيق ذلك.. وقد عبر أردوغان عن هذا بشأن إدلب، حيث أشار في كلمته أثناء المؤتمر الصحفي في موسكو إلى المصالح التركية في إدلب وإلى أنها عمق الاستراتيجي لتركيا..

هذه ألغامٌ معلنة مبثوثة في حقل الاتفاق، وهناك ألغامٌ أخرى غير معلنة في حقوله وفي حقول القضية السورية، الأمر الذي يجعلنا نعتبر اتفاق بوتين-أردوغان الأخير هشاً وملغَّماً ومهدداً، ونخشى من الأسوأ لا سمح الله.