أتجول بين مدنها وشوارعها وأزقتها، بين بيوتها الغارقة في أنهار حزنٍ تجري، بين مساجدها التي أطفأت أنوارها بعد أن تلألأت مآذنها التي تصدح بـ"حي على الصلاة" فأقفلت أبوابها وخفتت الدماء بين عروقها.
تحدق نظراتي بعيون أهلها وتقاسيم الوجوه التي أبهت التاريخ ملامحها ووضاءتها. تقف
غزة اليوم أمام عدوٍ جديدٍ لا تقوى عليه إلا إرادة الله جل في علاه، بعد أن أسقط كيانات دولية عظمى، وهتك بقطاعات صحية واقتصادية، وشلّ دوران الكرة الأرضية، وكأن الساعة آتية لا ريب فيها بين عشية وضحاها، تدق عقارب الوقت لتصحبنا إلى هناك وما أدراك ما هناك. غزة الجريحة تصارع هذا الموت وهذا التحدي بجيوب فارغة، وطاقات متبددة في جنح الظلام، وغياهب
الحصار والفقر والبطالة، واستنزاف القطاع الصحي وكافة القطاعات الأخرى.
تتيه الكلمات في وصف غزة، فقد تفقد تلك الكلمات رونق حزنها ومعانيها، وقد تتفكك حروفها المنصهرة بين طيات السنين، مثقلة بالجراح والنحيب والعويل، تتيه في وصف
المعاناة والوجل والألم الذي لا يختلف عليه أهل الأرض وأهل السماء، فهي لا تزال عقدة كيان غاصب مجرم، أوصلها إلى هذا المقت، وهذا الانحلال الجغرافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي بين فكي الانقسام المتشرذم وأتون التصفية والمؤامرات وحرب القرارات التي فككت قطرين من أقطار الوطن، واضمحلت قواها وصلابتها وعنفوانها الثائر في وجه كل عابر.
رغم ذلك تقف غزة اليوم موقف الرجال تذود عن نفسها بمربط فرس، وهمّة فارس، وعقال بعير، وبلهج المخلصين بدعائهم مع الوقاية التامة والأخذ بأسباب النجاة.. غزة لا تمتلك أنظمة صحية لمقاومة المجهول في دنيا الغرائب والأساطير، ولا تكنولوجيا تُحكّمها من رئتي
كورونا، غزة تمتلك العزم والصبر ورباطة الجأش، فالصبر على البلاء خير دواء لأي داء.