قد نختلف مع المفكّر أبي يعرب المرزوقي في تحديد عدد "العوائق" التي تحول دون التنزيل المعقلن لاستراتيجية محاربة
الفساد، وقد لا نراها خمسة (الاتحاد العام
التونسي للشغل، منظمة الأعراف، الإدارة، الشركات الوطنية، المهربين)، وقد لا نوافقه كذلك بتوصيفه لها بـ"المافيات"، ولكننا لا يمكن أن ننكر أن ما يسمّيه "مخمّس المافيات" هو فعلا عائق رئيس من عوائق بناء الجمهورية الثانية على أسس مختلفة عن تلك التي انبت عليها الجمهورية الأولى بلحظتيها الدستورية والتجمعية، كما لا يمكن (باعتماد الاستقراء لما حصل منذ 14 جانفي 2011) أن نُنكر أن بعضها قد زاد تغوّلا وانتشارا بحكم الضعف (أو الاستضعاف الممنهج) الذي مسّ أجهزة الدولة منذ هروب المخلوع زين العابدين بن علي.
يميل كاتب هذا المقال إلى اختزال "مخمّس" الفيلسوف أبي يعرب في عنصرين، هما الإدارة بمختلف أشكالها السياسية والنقابية والرأسمالية، وفساد الأسس النظرية التي قامت عليها تلك العلاقة، كما نميل بعد ذلك إلى إرجاع هذه الثنائية إلى نواة صلبة واحدة ألا وهي الفساد القيمي. ونحن لا نقصد بالفساد القيمي ابتعاد الناس عن المرجع الديني للنظر والسلوك، بل نقصد ضربَ الدولة الوطنية لذلك المرجع الديني، (المتهاوي بطبعه والعاجز عن إدارة اجتماع بشري يتجاوز "الجماعة الايمانية")، دون أن تنجح في إرساء مرجع عقلاني/ قانوني يحل محله ويكون ذا فاعلية أو مصداقية في بناء الاجتماع السياسي بعيدا عن الجهوية والزبونية والنخبوية، وخارج هيمنة العقل السياسي الذي أرسى التسوية الاستبدادية بين الثالوث الذي تحدث عنه المرحوم محمد أركون: الزعيم- الحزب- الوطن.
بعيدا عن الادعاءات الذاتية للمدافعين عن الأساطير المؤسسة للدولة- الأمة (أو الدولة الوطنية)، عرّى
وباء كورونا المحصول الواقعي لخيارات الدولة الكبرى منذ الاستقلال، كما كشف عن خارطة جغرافية "لا متكافئة" تعكس طبيعة الخارطة الذهنية للنخب "الحداثية" التي هيمنت على إنتاج الخيرات المادية والرمزية للمجتمع وتحكمت في أدوات إنتاجها وتوزيعها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا. ولعلّ الأخطر من ذلك كله هو أنّ
كورونا قد أظهر نوعا من "الوسواس القهري" الذي يمنع العديد من الأطراف السياسية والنقابية والإعلامية والمدنية والمالية من تحييد مرجعياتها الأيديولوجية ومصالحها الفئوية بقصد بناء وحدة وطنية حقيقية تحتاجها البلاد لمواجهة الوباء.
إن خطورة المسألة في تقديرنا لا ترتبط ببعض "التجاوزات" الفردية والمعزولة (مثل
اعتداء بعض النقابيين على النائب محمد العفاس في صفاقس، وهو الاعتداء الذي زاده تبرير المركزية النقابية سوءا)، ولا ببعض الخطابات "المتشنجة" والاستفزازية (مثل ما حكم الإطلالات الإعلامية لرئيس منظمة الأعراف، ومحاولة بعض وسائل الإعلام شرعنة مواقفه وشيطنة أي مطلب لإجبار رؤوس الأموال على المساهمة في الكلفة المادية لمواجهة كورونا)، ولا كذلك ببعض الخروقات الإعلامية (مثلما حصل من ثلاث صحفيين بقناة نسمة روّجوا لأخبار زائفة وتعاملت معهم نقابة الصحفيين بالحزم المطلوب)، بل إن الخطورة ترتبط بأنّ هذه "الأحداث المعزولة" تُخفي في الحقيقة بنية ذهنية معمّمة على أغلب القطاعات والمنظمات والمؤسسات العامة والخاصة، وهي بنية ذهنية يغلب عليها الأدلجة والقطاعية والجهوية، وغيرها من "الآفات" التي تمثّل أكبر عائق أمام التنزيل الواقعي لمفهوم "الوحدة الوطنية".
حلفاء كورونا في تونس ليسوا مجرد شخصيات عامة يمكن تحييدهم أو على الأقل مواجهتهم بسلطة الدولة وقوانينها، بل إن الحليف الأكبر لها هو تلك البنية الذهنية "الوبائية" التي لطالما تغنّى أصحابها بالوحدة الوطنية والنمط المجتمعي التونسي والدولة الحديثة وحقوق الإنسان، وهم في الحقيقة يُمثّلون كل ما يناقض تلك القيم/ الشعارات، من محسوبية وزبونية وجهوية ودوغمائية وغيرها. فمن يعجز عند "عموم البلوى" عن مراجعة نفسه وعن تعديل مواقفه بما يخدم الصالح العام وبما يمهّد لبناء مشترك مواطني أو "كلمة سواء" مطابقة لرهانات اللحظة وما يليها، لن يكون إلا حليفا موضوعيا لكورونا ولو تقدّم الصفوف (واقعيا أو في مستوى الإيهام) لمواجهة هذا الوباء.