هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كتابة الرواية ليست آنية، ولا انفعالية، ولا قهرية.. وفي الوقت ذاته هي ليست مفتعلة، ولا باردة، ولا محايدة.
قد تُنجز أشكال الكتابة الأخرى في نصف ساعة، يوم، شهر أو اثنين. لكنَّ الرواية، بسبب ضخامتها، تحتاج فترات أطول، وعليهِ فجانبٌ كبير من جهدك المبذول يقع في مرحلة "ما قبل" الكتابة، إلى جانب الكتابة الفعلية نفسها.
أن تُقنع نفسك، على مدى عامين (مثلا) أن تجلس إلى الكمبيوتر يوميًا، لـ ساعات لا تقل عن ثلاثة وأحيانًا تزيد على تسعة، لكي تكتب 500 كلمة في اليوم.
إنّ هذه الممارسة تتطلب قدرًا من الانضباط يشبه انضباط الجنود والرياضيين؛ هل شاهدتم أفلام "روكي" وهو يستيقظ في الخامسة فجرًا، يلتقط تفاحة من بائع الفاكهة ويركض على الشاطئ يتبعه فيلق من الأطفال؟
الروائي يركضُ وحيدًا، لا أحد يتبعه.
الأصوات الوحيدة التي يسمعها هي أصوات شخصياته.
إن سمعها بذات الوضوح، إن كان محظوظًا.
كتابة الرواية هي مشروع طويل الأجل، ونجاح مشروع من هذا النوع يعني المحافظة على الإيقاع، والروتين ، يعني التخلص من فكرة الفنان الفوضوي منكوش الشعر في الأفلام، ويعني أن تبدأ في تسريح شعرك.
تحتاج أن تعرف أيضًا أنك ستقضى أيامًا كثيرة أمام الشاشة دون أن تكتب شيئًا ذي قيمة، وفي هذه الحالة لديّ مجموعة نصائح؛ اكتب أشياء بلا قيمة.
المهم أن تكتب، لأنك ستعمل على تحريرها لاحقًا. لكن حافظ على الحالة الكتابية في طور "القطار البخاري" الذي لا يستطيع التوقف، ولا ينبغي له.
تقول جودي بيكولت:
"اكتب حتى لو كنت لا تشعر بأنك تريد أن تكتب. ليس هناك وحيٌ في الكتابة، إنها عملٌ شاق. تستطيع دائمًا أن تبيّض مسودة، ولكنك لا تستطيع أن تبيّض ورقةً فارغة". (لماذا نكتب / ميدريث ماران. الدار العربية للعلوم ناشرون).
إذا وجدت نفسك عاجزًا عن المواصلة، فقد يكون السبب خللًا في توظيف الأدوات، رآه "لا وعيك"، وما زال وعيك أعمى إزاءه. لذا، أفضل حل لحبسة الكاتب هو أن تعود إلى الصفحة الأولى وتقرأ.
يمكنُ أيضًا ألا تكون هناك مشكلة في النّص، لكن هذه الآلة التي عكفت على جمع وتركيب تروسها وعتلاتها قد انطفأت فجأة،. أنتَ بحاجة إلى دينمو، بنزين، شرارة، قوة دافعة تجعلها تنطلق في الاتجاه الصحيح مرة أخرى.
اقرأ أيضا : في الكتابة.. ما من قوة تستطيع التصدي لسلطة السطر الأول
جويس كارول أوتس تقول بأنها، عندما تواجهها مشكلة مثل هذه، فهي تلقى في النّص "حصاة".. شيء يمكن أن يتحول إلى بذرة. شخصية جديدة لم تكن في الحسبان، مشهدًا يبدو غير وثيق الصلة بحبكتك الأساسية. من كانت لديه حيلة فليحتال.
والكاتب صاحبُ حيل، باستثناء أن القبعات والأرانب هي محض استعارات.
هناك نوعان من الكتابة؛ كتابة ذهنية وكتابة فعلية. كلاهما أساسي، الأولى تسمح للثانية بأن تتحقق على النحو الأكمل، والثانية تسمح للأولى بأن تتنفس وتتلون وتأخذ أشكالًا شتى.
الكتابة الذهنية تعني ما يحدث في رأسك وأنت تقود سيارتك إلى العمل، أو تغسل الصحون في المطبخ. إنها الحوار الداخلي الذي تقيمه مع الرواية في محاولة فهمها.
الكتابة الذهنية أيضًا هي الموسيقى؛ أن تدخل إلى مزاج الشخصية من خلال اكتشاف أغنيتها المفضلة، لونها المفضل، منطقتها العمياء، أحلامها السرية وآثامها.
اقرأ أيضا : رواية "اسمي سلمى" والمقولات الجاهزة
الكتابة الذهنية تحدث من خلال اليوغا، والتأمل، والمشي، والحديث مع الأصدقاء عن آخر الـ "مطبات" التي تعثرت بها وأنت تكتب.
عندما أبدأ رواية جديدة فأنا أكتب كل يوم، لكن ليس فعليًا.
الكتابة الذهنية كتابة أيضًا وهي تجعل النص يختمر ويتنفس ويصبح أكثر طواعية في يدي.
الكتابة الفعلية هي اللحظة التي أحوّل فيها خيالي إلى لغة.
وأخيرًا؛ هناك عملية البحث. قد تستغرق شهرًا أو أكثر بين فصل وآخر. معلومة ناقصة نحتاجها لكي يصبح التقدم ممكنًا.
البحث أيضًا من مشتّقات الكتابة؛ كل روائي هو متقصٍّ للآثار، مفتّش مباحث، وأحيانًا جاسوس. عندما أضطر للكتابة عن حقبة لم أعِشها فأنا أستعير ذاكرة الآخرين. أفعل ذلك أحيانًا، بعلمهم، وأحيانًا من دون علمهم. لا أحد يعرفُ بأن في داخلي جاسوسة صغيرة.
لو كنت سأقيس المنجز الكتابيّ فقط بما أكتبه "فعليًا" لأصبتُ بالإحباط. لكنني أعرفُ حالات الكتابة الثلاث؛ الفعلية، والذهنية، والبحثية.
كما أعرفُ لاحقًا أنني سأدخل مرحلة التحرير في كتابة ثانية وثالثة وعاشرة. إن تشخيص المرحلة التي أحتاجها مرحليًا في عملي يخفف عليَّ ضغط "الإنجاز".
وفي معظم الأيام، كتابة جملة لامعة واحدة يبدو كافيًا.