من محفوظات الثقافة الدينية، قول الحَسَن البَصْرِيِّ، رضي الله عنه، في حديثه عن الناس: "كانوا يتساوون في وقت النِّعَم فإذا نزل البلاء تباينوا". وكلام التابعي الجليل محمول على مفهوم الصبر وقت النوازل، ويتعلّمه المسلمون لتجذير مفهوم الصبر في النفوس، وأهمية الرضا بقضاء الله، لكن ما استدعى كلام الإمام البصري في هذا السياق، إمكان صلاحه كقاعدة في علم الاجتماع بعد آثار جائحة كورونا.
بدءا من وستفاليا 1648 كانت هناك محاولات لصنع مجتمع أوروبي موحد، ومرت تلك المحاولات بإخفاقات وانتكاسات لا حصر لها، كان آخرها نشوب الحرب العالمية الثانية، لكن على مدار الـ75 عاما التالية لتلك الحرب الأوروبية/ العالمية، نجحت أوروبا في إرساء دعائم وَحدتها، بدءا من المجلس الاستشاري في بروكسل 1948 الذي شكّل نواة لحلف شمال الأطلنطي (الناتو)، ومرورا بمعاهدة ماسترخت 1993 التي أعلنت عن الاتحاد الأوروبي، وانتهاءً بالعملة الوروبية الموحدة (اليورو) عام 2002. واستطاعت أوروبا على مدار هذه العقود من توسيع رقعة الوَحدة الأوروبية واجتذاب أعضاء جدد، إلى أن أصبحت الآن أمام اختبار عنيف يهدد وَحدتها. وللمفارقة فإن هذا الاختبار يقع عقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
كانت بداية إعلان التذمر من إيطاليا التي اجتاحها الوباء وأصبحت مركزا له فاق الصين في أعداد الإصابة والوفيات. ففي جلسة البرلمان الأوروبي في آذار/ مارس الماضي، قالت النائب الإيطالية مارا بيزوتو: "لقد كانت أوروبا غائبة تماما. إن بروكسل لم تفعل شيئا لمعالجة الوضع في إيطاليا وفي عدة بلدان أخرى. وبدلا من التعامل مع الوافدين من الصين ومن أماكن أخرى، تعاملت أوروبا مع الأشخاص في شمال إيطاليا كما لو كانوا يعانون من الطاعون".
الوضع لم يقتصر على إعلان التذمر فحسب، بل تطور إلى قرصنة وسرقات، بدأتها جمهورية التشيك عندما استولت على أقنعة كانت مرسلة من الصين إلى إيطاليا التي تفشى فيها الفيروس، وتذرعت التشيك بأن عمليات المصادرة كانت ضد مهربين، ثم قامت إيطاليا بنفس السلوك الإجرامي مع تونس،
وقرصنت شحنة طبية كانت موجهة إليها.
كذلك قامت الولايات المتحدة بالاستيلاء على معدات طبية خاصة بألمانيا وفرنسا وكندا، إما بالمزايدة على البائعين
وشراء معدات تم تخصيصها لإحدى هذه الدول، أو بمنع تصديرها خارج الحدود الأمريكية إذا كانت الجهة المُصنِّعة أمريكية.
لكن الملفت للانتباه كانت تصريحات رئيس قسم التكنولوجيا في الموساد الذي رمزوا له بالحرف (ح)، وأذاعتها القناة 12، ونقلها موقع times of Israel بتاريخ 1 نيسان/ إبريل الجاري، أن "العالم يبيع (أجهزة التنفس الصناعي) عبر شقوق. علينا إيجاد هذه الشقوق". وتابع: "نحن
نستخدم اتصالاتنا الخاصة للفوز بالسباق وربما نفعل ما يفعله العالم كله، نضع أيدينا على المخزونات التي يطلبها آخرون". وفي وصفه لمثال على ذلك قال: "كان لدينا بلد في أوروبا حيث وصلت شاحناتنا عند أبواب المصنع، ولكن دولة أوروبية أخرى سبقتنا وقامت بتحميل (البضاعة)". وأضاف: "صادفنا أيضا موقفا حيث كانت لدينا معدات اشتريناها على متن طائرة، ولكن كان يجب تفريغها لأن الطائرة لم تحصل على إذن (للإقلاع) بسبب الحظر".
هذه الوقائع تجري من قِبَل دول، تصف نفسها بأنها ديمقراطية أو أنها مثال للعالم "الحر"، وليس مُتَصَوّرا كيف ستقوم هذه الدول بكبح جماح جرائم الأفراد؟
على مستوى الأفراد، فأصبح محتما أن العالم سيتجه نحو أكبر أزمة اقتصادية ستطاله منذ عقود طويلة، وقد تسبب الفيروس (بحسب موقع يورو نيوز) بخسارة مليون أوروبي على الأقل لوظائفهم خلال أسبوعين فقط، بينما قدرت منظمة العمل الدولية أن إجمالي الخسائر المتوقعة ستصل إلى 36 مليون وظيفة في العالم. وحذرت المنظمة من ارتفاع معدلات الفقر، "خاصة أن أكثر من نصف الموظفين حول العالم يعملون في القطاع غير الرسمي".
هذه التخوفات عبّر عنها بشكل أعمق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ووفقا لوكالة الأنباء الفرنسية، وقال غوتيريش في لقاء مع عدد من الوسائل الإعلامية إنّ فيروس كورونا المستجدّ الذي ظهر في الصين في نهاية العام الماضي واستحال وباء عالميا؛ هو "أسوأ أزمة عالمية منذ تأسيس الأمم المتحدة" في 1945. وأوضح أنّ السبب في ذلك هو أنّ هذه الجائحة "يجتمع فيها عنصران: الأول هو أنها مرض يمثل تهديدا للجميع في العالم، والثاني هو أن تأثيرها الاقتصادي سيؤدي إلى ركود لعلّنا لم نر مثيلا له في الماضي القريب". وبالنسبة إلى غوتيريش، فإن الأسرة الدولية لا تزال بعيدة كل البعد عن تحقيق التضامن المطلوب، لأن كل التدابير التي اتُّخذت حتى اليوم لمواجهة الوباء قامت بها دول متطوّرة لحماية مواطنيها واقتصاداتها. وقال: "نحن بعيدون عن وجود حزمة عالمية لمساعدة الدول النامية على القضاء على المرض وفي نفس الوقت معالجة عواقبه الوخيمة على سكانها، على الأشخاص الذين فقدوا وظائفهم، وعلى الشركات الصغيرة التي تواجه خطر الاندثار، وعلى أولئك الذين يعيشون خارج الاقتصاد الرسمي والذين لم تعد لديهم أي فرصة للبقاء".
هذه التصريحات الصادرة من أهم مؤسسة دولية تشير إلى تغيرات سياسية على مستويين: مستوى العلاقات الدولية، ومستوى العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فعلى مستوى العلاقات الدولية، لن تنسى الأنظمة والمجتمعات عمليات السرقة والقرصنة وقت الأزمة، كما أن الصين أصبحت مصدرا للتعاون مع أنظمة رأسمالية، بخلاف أمريكا التي تقوم بالقرصنة على حلفائها.
أما على مستوى العلاقات الداخلية بين الحاكم والمحكوم، فهناك نزعة سلطوية لها ما يبررها تجاه
تقييد حريات الأفراد، كما أن النزعات القومية ستتعزز جراء انغلاق كل مجتمع على نفسه للخروج من الأزمة، في ظل الأنانية والانكفاء الدوليَّيْن، كما أن هناك خطرا لا يزال مجهولا يتعلق بالأوضاع الاقتصادية إذا طالت الأزمة إلى الحد الذي يدمر اقتصاد دولة، خاصة الدول الهشة مثل دول المنطقة العربية، وما سيترتب على المضار الاقتصادية من انفلات أمني، وما قد يترتب على الانفلات الأمني من إجراءات.
إذا وضعنا في الاعتبار أن الدول الكبرى لم تضع تصورا لمواجهة هذه الحالة، رغم ذيوع الاختبارات الجرثومية وتصورات الحروب البيولوجية، فإننا أمام قصور أكبر سيحيق بالمجتمع الدولي لأنه غير مستعد لتجاوز الأزمة، وهذه كلها اعتبارات خطرة، ستدفع إلى تنظيرات سياسية جديدة، وتأسيس جديد للعلاقات الدولية، ربما يختلف بصورة ما عن تصورات العلاقات الدولية عقب الحرب العالمية الأولى، كما أننا أصبحنا أمام قاعدة اجتماعية تقول: "كانوا يتساوون وقت النِّعَم، فإذا نزل البلاء تباينوا".