تقارير

مناهضون للصهيونية.. قراءة في شهادة تاريخية (2من2)

ضابط إسرائيلي يروي تجربته في جيش الاحتلال ويدافع عن الحقوق الفلسطينية  (عربي21)
ضابط إسرائيلي يروي تجربته في جيش الاحتلال ويدافع عن الحقوق الفلسطينية (عربي21)

الكتاب: ابن الجنرال رحلة إسرائيلي إلى فلسطين 
الكاتب:ميكو بيليد،ترجمة وتقديم محمود محمد الحرثاني
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت ـ 2019.
(302 صفحة من القطع الكبير)

 

يواصل الكاتب والباحث التونسي توفيق المديني، في الجزء الثاني (الأخير) من قراءته لكتاب "ابن الجنرال.. رحلة إسرائيلي إلى فلسطين" للضابط الإسرائيلي ميكو بيليد. وتكمن أهمية الكتاب في أنه يلخص تجربة نادرة تكشف جوانب مهمة من حقائق الاحتلال الصهيوني لفلسطين، صادرة عن ضابط إسرائيلي في جيش الاحتلال، يرى بأن الفلسطينيين تعرضوا لظلم كبير، ويؤمن بحل الدولة الواحدة وبحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم. 

بداية رحلة ميكو بيليد إلى فلسطين 

تبدأ معركة ميكو بيليد مع نفسه عندما يكون في دورية داخل أراضي الضفة الغربية، ويشعر أنه ورفاقه من الجنود "الشجعان" يهلكون حرث فلاح فلسطيني بسيط في الضفة الغربية دون سبب، وعندما يراجعُ ميكو الضابط، مشيرا إلى أن هذا أمر غير لائق، ينهره الضابط ويأمره بالعودة لمكانه في الدورية. 

بعد ذلك يرتحل ميكو في الزمان والمكان، وتتطور نظرته النقدية الضدية لكل سلوك تسلكه إسرائيل تجاه الفلسطينيين، فيتخلى تدريجيا عن حلمه الصهيوني حتى يصل إلى مرحلة وصفها ـ في هذا الكتاب ـ بقوله: "لم تعد لدي أي رابطة عاطفية مع الصهيونية"، وذلك بعد عدة تجارب مريرة أوصلته إلى تلك النهاية المحتومة. من هذه التجارب تجربة سمعها مبكرا من أمه، زيكا التي أشربته معاني السمو صغيرا، برفضها سلوك إسرائيل ضد الفلسطينيين، بل وشعورها بالعار إزاء ما يرتكبونه من جرائم.
 
فقد أخبرته أن الجيش الإسرائيلي عرض عليها بيتا عام 1948 في القدس؛ نظرا إلى كونها زوجة ضابط كبير ولكنها رفضت، متسائلة: "هل آخذ بيت عائلة ربما تعيش الآن في مخيم لاجئين؟! بيت أم أخرى!؟ هل يمكنك أن تتخيل كم يفتقدون بينهم؟" لقد كان شعورها بالعار إزاء ما يفعله الجنود، وتعبيرها عن ذلك مرارا منارة في طريق ميكو نحو إعادة الاعتبار لذاته المتمردة. 

 

لقد تغيرت آرائي بخصوص حل الصراع في فلسطين/ إسرائيل كثيرا، نتيجة لرحلاتي إلى الضفة الغربية، وذلك بعد أن شاهدت استثمار إسرائيل الهائل في البنية التحتية من أجل جذب المستوطنين اليهود، ومن ثم عزل الفلسطينيين الذين تعود ملكية تلك الأراضي لهم.

 



وعلى عكس الضباط الكبار، كان على والد ميكو، الجنرال متني، أن يكد ويجتهد كي يؤمن له ولعائلته بيتا من عرق جبينه، ولكن التجربة الأكثر إيلاما في حياة ميكو كانت مقتل صمدار ابنة أخته نوريت، ولقد كُتب لتلك الحادثة أن تنقل ميكو إلى مستوى جديد وحاسم من النشاط السياسي.

إن ظاهرة اليهود المناهضين للصهيونية قضية جديرة بالدراسة، إسرائيل شاحاك، إبلان بابيه، نعوم تشومسكي، وغيرهم كُثر، كلهم باحثون مرموقون ومثقفون من الطراز الأول، لا يرفضون سلوك إسرائيل فحسب، بل وينددون به صراحة في كل محفل، ولعل ماتي بيليد كان من أوائل الذين أدركوا العنصرية الكامنة في بنية الكيان الصهيوني، ولأنه كان منسجما مع نفسه فقد أودع أبناءه تلك الفكرة، وأي مؤشر أكثر وضوحا على نجاح إنسان من أن يؤثر في عائلته، رغم أن أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، كما قال العرب. 

ليس ميكو وحده في العائلة من يناهض إسرائيل وسياستها ضد الفلسطينيين، فأخته البرفيسورة نوريت، المحاضرة الجامعية، تسير على طريق والدها نفسه. ورغم أنها تتعرض لمحنة شديدة، فإنَّها لم تفقد البوصلة، وظلت توجه اتهامها لقادة إسرائيل، فقد قُتلتْ صمدار ابنة نوريت في عملية استشهادية قام بها شابان فلسطينيان. وعلى عكس ما هو متوقع، كان أول تصريح لنوريت بعد الحادثة أنَّ إسرائيل تتحمل المسؤولية بسبب اضطهادها للفلسطينيين.

يقول الكاتب ميكو بيليد: "وعندما كبرت، بدأت آرائي التي كانت تزداد ليبرالية عن الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني تفصلني عن أصدقائي اليهود والإسرائيليين، ولم يفارقني الشعور بالصراع الداخلي والاضطراب، وذلك لأنني ما من مرة عدت فيها إلى إسرائيل، إلا وكنت أجد أن أصدقائي القدامى الذين كان بعضهم يوافقني الرأي قد التحقوا بالإجماع العام، الذي يتحول باطراد نحو اليمين والشوفينية. وعندما كان ابن أفضل أصدقائي على أبواب التجنيد، سألتُ الولد عن المكان الذي سيخدم فيه، فأخبرني أنه يريد أن يلتحق بالقوات الخاصة. نظرت إلى صديقي مندهشا، ثم في ما بعد قلت له: "أنت تعرف أن ما يفعلونه خطأ ـ ألم تخبره"، فأجاب قائلا، "إنك لا تفهم، أنت لا يهمك ابني، كل ما يهمك هو أصدقاؤك الفلسطينيون". أجبته قائلا: "نعم، أهتم بأصدقائي الفلسطينيين، وما تقوم به القوات الخاصة ضدهم سوف تكون له نتائج عكسية، وسوف يتعرض ابنك للأذى بسبب ذلك أيضا. لِمَ لمْ تخبره؟". كانت تلك آخر مرة نتحدث فيها معا. 

ويضيف قائلا: "عندما التقيت يهودا أمريكيين، كان موقفي من الصراع العربي ـ الإسرائيلي يزعجهم. في الغالب. اليهود الأمريكيون كانوا يريدون أن يعتقدوا أن إسرائيل صالحة والعرب سيئون. أذكر أنني زرت طبيب عظام يهودي، وبمجرد أن عرف أنني يهودي ومن إسرائيل سمح لنفسه بأن يشن هجوما مسموما ضد العرب، ظنا منه أنني أشاركه المشاعر عن أولئك العرب السيئين". في البداية صدمت ولم أستطع الكلام، ثم أعطيته كرّاسة خاصة بمنتدى العائلات الثكلى، كي أفتح له مجالا للتفكير في الأمر، ولم أره بعد ذلك"(ص 152 من الكتاب).

حل الدولة الواحدة
 
يؤمن ميكو بيليد بالتعايش مع الفلسطينيين، وينادي بفكرة الدولة الواحدة، حيث يكون هناك دستور واحد للجميع وصوت واحد للشخص الواحد، فهي دولة لجميع مواطنيها، ويرى أنها كذلك في الواقع، وليس علينا إلا أن نعلن تغيير النظام من نظام فصل عنصري إلى نظام ديمقراطي. ولكنه على عكس كثير ممن يؤمنون من اليهود بالحلول السلمية، يؤكد محورية عودة اللاجئين الفلسطينيين. إن قضية العودة هي المحك الأبرز في إخلاص من ينادي بحق سلمي للقضية الفلسطينية. يضرب ميكو مثلا ظريفا على مركزية حق العودة في أي مشروع للحل.

توصل ميكو بيليد إلى إدراك أن إنشاء دولة ديمقراطية تعددية علمانية تقوم على كل فلسطين/ إسرائيل، هو أفضل شيء للإسرائيلين والفلسطينيين، وأن حل الدولتين ليس حلا على الإطلاق. وكانت تلك أكثر نقطة اختلاف بينه وبين صهره رامي. وعندما طُرح ذلك الحل لأول مرة في صيف عام 2007 ، دخل في نقاش حاد مع صهره رامي. 

يقول ميكو بيليد: "لقد تغيرت آرائي بخصوص حل الصراع في فلسطين/ إسرائيل كثيرا، نتيجة لرحلاتي إلى الضفة الغربية، وذلك بعد أن شاهدت استثمار إسرائيل الهائل في البنية التحتية من أجل جذب المستوطنين اليهود، ومن ثم عزل الفلسطينيين الذين تعود ملكية تلك الأراضي لهم. وأصبح واضحا بالنسبة لي أن الصهاينة يكذبون عندما يتحدثون عن حل الدولتين. وأصبحت مقتنعا أن الحرية الكونية في وطن يشترك فيه الجميع، أفضل شيء للشعبين. لقد فشل الصهاينة في أن يبرهنوا أنَّ الأمور تسير بشكل طبيعي وسليم عندما يكونون في الحكم. ولذلك كان استنتاجي أنَّ دولة ديمقراطية تعددية سوف ينتفع منها الجميع. 

ويضيف قائلا: "قرأ رامي (صهره) المقالة وعبر عن حزنه لأنِّي فقدت الأمل ـ لقد كان محقا من جهة أنني فقدت الأمل من الدولة اليهودية ومن الصهيونية_، ولكن المرء يمكن أن يقول أيضا إنَّني أصبحت أكثر تفاؤلا لأنَّني أدركت أن الإسرائيليين والفلسطينيين يمكن أن يعيشوا معا في وطنهم المشترك. لدي أمل في قدرتنا على العيش في سلام طالما أننا جميعا نملك الصوت نفسه الذي يحدد مصيرنا، وطالما أن الدولة تحكمنا كأكْفَاء. 

 

إن الجواب المعروف بحل الدولتين ينتمي إلى واقع لم يعد موجودا، فالضفة الغربية مثقلة بمدن ومراكز تسوق ومصانع وطرق سريعة، كلها مصممة لليهود فقط، ويمنع الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة من التمتع بأي من التطور الحاصل على أرضهم.

 



قلت له مؤكدا وجهة نظري: "رامي، أنت تعرف جيدا مثلما أعرف أنه لا يمكن لحكومة صهيونية أن تسمح أبدا بإنشاء دولة فلسطينية على أراضي إسرائيل ـ لن يكون هناك أبدا رئيس وزراء يمكنه أن يُفرط بشرق القدس ووادي الأردن اللذين يشكلان ثلث الضفة الغربية. وبما أن الكتل الاستيطانية الكبيرة التي تستولي على مساحات واسعة من الضفة الغربية لن تعيدها إسرائيل، فأين يمكن أن تُقام الدولة الفلسطينية؟ علينا أن نتحول عن نموذج التفكير الصهيوني الذي يقول إن اليهود يجب أن تكون لهم دولتهم، إلى نموذج جديد يرى كلا من اليهود والفلسطينيين يعيشون معا أكْفَاء في دولة واحدة، ليست يهودية ولا عربية، وتقوده حكومة منتخبة تمثل الجميع"(ص 293 من الكتاب)..

وتؤكد الحكومة الإسرائيلية أنَّ لها الحقَّ في تحديد ممثلي الفلسطينيين كشركاء لإسرائيل في التفاوض، وتستخدم اعتبارات "الأمن" كاختبار حاسم. ونزعت إسرائيل الشرعية بشكل ممنهج عن أي قائد فلسطيني لم يكن على استعداد لأن يقبل "حق" إسرائيل بالسيطرة الكاملة على الأرض والخطاب. وهذا هو السبب الرئيسي وراء سجن، أو اعتقال، أو نفي أو اغتيال عدد كبير من القادة الفلسطينيين. وهذا هو السبب في أن ياسر عرفات قضى أيامه الأخيرة محاطا بالدبابات الإسرائيلية، لأنه رفض أن يقبل سطوة إسرائيل ووحدانية الرواية الإسرائيلية.

لقد خلقت إسرائيل بيروقراطية متكاملة بهدف واحد، ألا وهو جعل حياة الفلسطينين غير قابلة للعيش، ولذلك سوف يجدون أنفسهم في النهاية بلا خيار سوى المغادرة. يصف محامي حقوق الإنسان في إسرائيل ماكيل سفارد الوضع بأنه: "جبال من الحركة الممنوعة والمحرمات، ومحيط من الدران". 

إن الجواب المعروف بحل الدولتين ينتمي إلى واقع لم يعد موجودا، فالضفة الغربية مثقلة بمدن ومراكز تسوق ومصانع وطرق سريعة، كلها مصممة لليهود فقط، ويمنع الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة من التمتع بأي من التطور الحاصل على أرضهم. ليست هناك إرادة سياسية في إسرائيل بإعطاء الفلسطينيين حريتهم، كل هذا يعني بوضوح أن الإجابات تغيرت.

 

يرى ميكو بيليد أنَّ حقَّ العودة يجب أن يكون مضمونا في أي حل. وفي إطار الدولة الواحدة، لا يمانع الكاتب أن يفوز فلسطيني برئاسة البلاد ورئاسة وزارتها طالما أنه جاء بالانتخابات.

 



إن الجواب على سؤال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الصعب، يمكن استنتاجه من الواقع الذي خلقته إسرائيل؛ فقد اختارت إسرائيل حين حكمت أمتين أن تكون دولة ثنائية القومية. وكل ما تبقى الآن هو استبدال النظام القائم، حيث يتمتع اليهود الإسرائيليون بالحريات وحقوق المواطنة الكاملة، بنظام يسمح للفلسطينيين بالاستمتاع بهذه الحقوق كذلك. 

ففي محاضرة حضرتها له في جامعة ماليا بالعاصمة الماليزية كوالالمبور قال ميكو، "إن الصهيونية أعادت اليهود إلى إسرائيل تحت ذريعة أنهم عاشوا في هذه البلاد قبل ثلاثة آلاف سنة، ثم تطالب الفلسطينيين بعدم الحديث عن التاريخ إذا كان لديهم عزم على أن يبرموا سلاما، رغم أن كثيرا ممن طردوا من بيوتهم مازالوا يملكون المفاتيح والوثائق، المقارنة هي أن ستين عاما من المنافي قصيرة جدا قياسا بثلاثة آلاف عام". 

ولذلك يرى ميكو بيليد أنَّ حقَّ العودة يجب أن يكون مضمونا في أي حل. وفي إطار الدولة الواحدة، لا يمانع الكاتب أن يفوز فلسطيني برئاسة البلاد ورئاسة وزارتها طالما أنه جاء بالانتخابات. ثمَّ إنَّ أهل تلك البيوت كانوا قد طُردوا منها للتو. وكانت أمه، زيكا، من أولئك الذين استلموا أحد المنازل التي تمت مصادرتها ولكنها رفضت أن تسكنه، إذ كان من غير المحتمل بالنسبة لها أن تجلس وترتشف القهوة في بيت امرأة أخرى، جالسة في اللحظة نفسها ينهشها الجوع، ويحيط بها البؤس مع أفراد عائلتها المذعورين أو الجرحى في مخيم اللاجئين.

 

إقرأ أيضا: مناهضون للصهيونية.. قراءة في شهادة تاريخية (1من2)

التعليقات (0)