هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا يمكن فصل شكل تعاطي الإسلاميين مع العلوم الاجتماعية عن أزمة هذه العلوم في العالم العربي، برمته، والصعوبات التي اعترضت عملية توطين هذه العلوم وتبرير الحاجة إليها في الوطن العربي، لاسيما وأنها ولدت في مخيال متلقيها في العالم العربي، أو على الأقل تم تمثل صورها الأولى، بتلازم مع مشكلتها الرئيسة، مشكلة عدم انفصال الذات الدارسة عن الموضوع، وهيمنة الإيديولوجي عليها، والتوظيف الشديد لمعطياتها ومخرجاتها في الصراع السياسي.
ومع ذلك، فإن البحث في حفريات موقف الإسلاميين ـ وأقصد موقف الذين تعاطوا مع المسألة الفكرية منهم ـ مع العلوم الاجتماعية، تكشف تطور الموقف من جهة، وتعدده من جهة ثانية، بل تكشف درجة عالية من الدينامية المنهجية في التعاطي مع سؤال التعامل مع العلوم الاجتماعية لاسيما في مراحل متأخرة، بعد أن وضع الخطاب الفكري الإسلامي كله في دائرة النقد والتقويم، بل ووضع العمل الإسلامي كله في منظار الرؤى النقدية أو ما يعرف بملفات "أين الخلل؟".
ستحاول هذه الورقة التحليلية، التي أعدها الكاتب والباحث المغربي بال التليدي خصيصا لـ "عربي21"، أن تنقب عن حفريات الموقف من العلوم الاجتماعية لدى العقل النظري للإسلاميين، وتتبع تطور هذا الموقف، والخلفيات التي كانت تحركه، والمآل الذي انتهى إليه، بعد أن أصبحت هذه العلوم في تمثلات الإسلاميين آيات مركزية لا غنى عنها في فهم الواقع.
في بداية الاحتكاك بالعلوم الاجتماعية
بدأت الصورة الأولى للتعاطي مع هذه العلوم بقدر من الانتقائية الاستشهادية، أي اختيار ما يناسب منها لتقرير بعض الأفكار وتقوية مواقعها، فانفتحت كتابات الندوي وسيد قطب ومحمد قطب ومحمد الغزالي والسباعي وأنور الجندي وغيرهم على نقول مهمة لعدد من علماء الاجتماع والمؤرخين والمفكرين الغربيين، كلها جاءت في سياق دعم فكرة أو تثبيتها أو إعطائها سندا خارجيا، بعد جهد التأصيل الداخلي. فاستشهد سيد قطب بنقول كثيرة لألكسيس كاريل، واستشهد الشيخ يوسف القرضاوي والدكتور عماد الدين خليل وغيرهم بأرنولد توينبي، وتكثف الاستشهاد بالمؤرخ الأمريكي ويل ديورانت خاصة من كتابه قصة الحضارة، وكذلك بالباحثة الألمانية في الشؤون الدينية زيكريد هونكه، واستشهد محمد الغزالي بديل كارنيجي، وكانت أغلب هذه الاستشهادات تأخذ مسارا تعزيزيا، أي لم يكن الهم في هذه الاستشهادات الالتفات للبعد المنهجي فيها، بقدر ما كان القصد هو انتقاء مضامين بعض النقول، ووضعها في سياق استشهادي يعزز هذه الفكرة أو تلك.
وإذا كانت هذه الصورة تناسب مرحلة التبشير بالفكرة الإسلامية وشموليتها وحتمية الحل الإسلامي، فإن الصورة الثانية التي فرضها واقع التدافع مع المشاريع المنافسة، فتح نافذة أخرى للمشروع الفكري للإسلاميين للتفاعل مع العلوم الاجتماعية، لكن ليس من زاوية الاستيعاب ومحاولة الفهم، ولكن، من زاوية النقد والإبطال، فاتسم التعاطي مع الفكر الماركسي، ومدرسة التحليل النفسي، وبعض رموز علم الاجتماع مثل دور كايم وأوغست كونت، بقدر كبير من التحامل، وأحيانا كثيرة سوء الفهم، وشيوع فكرة الإبطال بما اتفق.
غير أن شيوع هذا المنطق الإبطالي بما اتفق، حتى ولو كان ذلك بأدوات غير عقلانية، لم يمنع من تحقق قدر كبير من النفاذ لجوهر هذه الأطاريح والمناهج، وذلك إذا لاقى من المفكر والكاتب قدرا من التخصص أو الاحتكاك المباشر بهذه الأطاريح، فكتب محمد قطب آراء نقدية نوعية في نقد مدرسة التحليل النفسي في كتابه الإنسان ما بين المادية والإسلام، وبرع الدكتور عماد الدين خليل في مناقشة ونقد الأطاريح التفسيرية للتاريخ في كتابه "التفسير الإسلامي للتاريخ"، وكتب سيد قطب نقدا قويا للرأسمالية في كتابه "معركة الإسلام مع الرأسمالية" وللشيوعية في كتابه "نحو مجتمع إسلامي"، وساعدت الخلفية الكلامية (علم الكلام) الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في تحرير ملاحظات منهجية مهمة في نقد مبادئ المادية الجدلية في كتابه نقض أوهام المادية الجدلية ، وأيضا في نقد الفكر المادي في كتابه "كبرى اليقينيات الكونية".
ثم جاءت المرحلة الثالثة، التي تناسب مرحلة التجديد والاجتهاد، ليطرح سؤالان شائكان: سؤال الحاجة إلى العلوم الاجتماعية؟ وسؤال شكل التعاطي معها؟
وإذا كان السؤال قد حسم بالإيجاب لصالح تأصيل أهمية الاشتغال بالعلوم الاجتماعية، والحاجة إليها لفهم طبيعة الواقع المعقد، ومساعدة الفقيه على تحقيق المناط، فقد اختلفت الصياغات المقترحة للجواب عن السؤال الثاني، فطرح بإزائه ثلاث إجابات بصددها
التعاطي مع العلوم الاجتماعية من مدخل نقد التحيز ونقد المركزية الغربية
انطلق الجواب الأول بحمل أبعاد نقدية للخلفيات النظرية والمنهجية لهذه العلوم الاجتماعية الغربية، تارة باسم نقد تحيزها، وتارة باسم نقد مركزيتها الغربية، وتارة باسم نقد السمة الأحادية لتفسيرها، وتارة أخرى بنقد العلاقة القائمة بين المنهج وبين خلفياته المادية. وقد مثل الدكتور عبد الوهاب المسيري هذا الجواب بامتياز، فقد اشتغل المسيري في ورش نقد التحيز، ونقد النموذج المعرفي الغربي، ونقد المركزية الغربية في العلوم الاجتماعية، ليس فقط من جانب الموضوعات والمخرجات، ولكن أيضا من زاوية المنهج، فقد التفت المسيري مبكرا إلى أن المنهج ليس قضية تقنية إجرائية حيادية، وإنما المنهج هو جزء من النموذج المعرفي إن لم يكن هو صانعه وراعيه والحارس الأمين له.
العلوم الاجتماعية.. وجواب أسلمة المعرفة
ومع الثقل الذي احتله الجواب الأول، ولا يزال، إلا أن العقل النظري للإسلاميين، التفت مبكرا، وربما في مراحل سابقة، إلى أهمية الخروج من أسر نقد الخلفيات والأطر النظرية والمنهجية للعلوم الاجتماعية كما هي مصاغة غربيا، فاتجه جماعة من الباحثين مبكرا إلى التداعي لعقد مؤتمرات في باكستان والسعودية وبعض دول أوروبا للتفكير في مشروع بنائي ينشغل بقضية العلوم الاجتماعية ويطرح خيار أسلمتها وما يتطلبه ذلك من وضع أسس وأرضية يمكن أن تعتمد لإطلاق هذا الورش المنهجي الذي كان لبنة لتأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومسار تشكل خيار أسلمة المعرفة
من المفيد أن نشير إلى أن حفريات تبلور الفكرة التي بناء عليها تأسس المعهد العالمي للفكر الإسلامي، تعود تقريبا لمنتصف السبعينيات، مع دعوة مؤسس المعهد، الدكتور إسماعيل الفاروقي، لتأسيس "جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين" سنة 1972، بهدف تجميع المختصتين في العلوم الاجتماعية من أجل صياغة نظرية أو تصور لإسلامية المعرفة، وتخليصها من التحيزات الغربية، فنظم أول مؤتمر بمدينة لوغانو بسويسرا سنة 1977، لمناقشة أزمة الفكر الإسلامي، اتخذ فيه قرار تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
ثم نظم أول مؤتمر عالمي لإسلامية المعرفة، عقد بإسلام آباد بباكستان. كما عقد مؤتمر آخر بمكة المكرمة في العام نفسه، حول التربية الإسلامية، قدم فيه ورقته المشهورة "إعادة صياغة العلوم الاجتماعية في ضوء الإسلام”، انتقد فيها التحيز في النموذج الغربي الدارس للعلوم الاجتماعية وشرح نقائص المنهجية الغربية في البحث العلمي، وأبرز فيه الحاجة لمشروع "أسلمة المعرفة".
ويروي صديقه وملازمه، الدكتور جمال برزنجي، نائب رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أن المؤتمر تلقى ما بين 400 و500 رد، وأن لجنة المتابعة والتحكيم، لم تجد ولو خمسة ابحاث تستحق القبول والتقديم في المؤتمر، واستخلص من هذه التجربة عمق الأزمة الفكرية التي حلت بالأمة وحاجتها إلى تطوير قدرتها على العطاء العلمي والحضاري.
في هذه المرحلة ظهرت تجليات فكرة الفاروقي حول أسلمة العلوم الجتماعية أو صياغتها إسلاميا بشكل غير مؤسسي، في شكل دراسة بعنوان "إسلامية المعرفة.. المبادئ العامة وخطة العمل" التي تم طبعها سنة 1983، هي في الأصل ثمرة لبحثين حول الموضوع لرئيس أمناء ومدير المعهد، بالإضافة إلى مناقشات وتعقيبات وملاحظات أكثر من خمسة عشر من علماء الإسلام العالميين ممن شاركوا في حلقة البحث التي عقدت في مؤتمر إسلام آباد مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي في كانون ثاني / يناير 1982 .
ومع أهمية خطوة نشر هذه الورقة، إلا أن المعهد نظر إليها باعتبارها تمت من قبل الدكتور إسماعيل الفاروقي من غير تنسيق وتفاهم كامل معه، مما دعا مجلس أمناء المجلس بالمعهد إلى أن يعهد للدكتور عبد الحميد أبو سليمان بإعادة تحرير هذه الدراسة ومراجعتها فنيا واعتمادها خطة عمل للمعهد.
ومهما يكن من اختلاف وتباين في ضبط بدايات اعتماد خطة أسلمة المعرفة داخل المعهد العالمي للفكر الإسلامي، والتباعد الزمني بين لحظة إنتاج الأفكار والتداول بشأنها، ولحظة ترسيمها، فإن المآل الذي انتهى إليه تشخيص المؤسسة بشكل رسمي، أن أزمة الأمة فكرية، وأن المدخل لعلاجها يكون بإصلاح الفكر الإسلامي وأسلمة المعرفة وصياغة العلوم الاجتماعية صياغة إسلامية.
ويرجع المعهد أساس علة هذه الأمة إلى اعتلال فكرها واعتلال منهجيتها في هذا الفكر، وما يترتب عن ذلك من اعتلال نظام التعليم السائد فيها مما يشكل تربة خصبة للداء. وأن الإصلاح يتطلب إعادة النظر في مناهج التعليم، لاسيما التعليم الجامعي الذي يلقن ويكرس الاغتراب عن الإسلام وتراثه ونمطه في الحياة، وأن نظام التعليم يشكل المختبر الذي تصاغ فيه تركيبة الشباب المسلم ويجري تغذية وعيهم على أسس غربية باطلة، بمفاهيم وتصورات تغرس في وعي المسلم وفي أعماقه، وتقطع صلته بماضيه وتمنع أي رغبة في الانطلاق من دينه وتراثه من أجل إحيائه وتجديده.
أسلمة العلوم الاجتماعية.. مسار لم يكتمل، أم مسار تم التخلي عنه؟
مع كل الجهد الذي قام به المعهد من أجل الإقناع بأسلمة المعرفة، ووضع أرضية معرفية ثقيلة، اعتمدت كمرجعية لفتح هذا الورش وعرضه على جملة من المختصين في العلوم الاجتماعية، وعلى الرغم من تداعي عدد منهم إلى الكتابة في هذا الحقل، في حقل التاريخ مثل عماد الدين خليل، وفي حقل علم النفس، مثل مالك بدري، وفي حقل علم الأديان المقارن مثل إسماعيل الفاروقي، وفي حقل علم الاجتماع والانثروبولوجيا والعلوم الاقتصادية وغيرها، فإن الحصيلة كانت متواضعة في هذا الباب، إذ لم تتعد المساهمات الجوانب العمومية أو التأطير النظري الذي يشبه إلى حد كبير مداخل العلوم ومنطلقاتها الأولى، أو الخصائص التي تؤطر مختلف فنون العلوم الاجتماعية مضافا إليها الصفة الإسلامية، كما أثير إشكال آخر مرتبط بحساسية التسمية، إذ ساهمت هذه التسمية في خلق حزازات كثيرة داخل الحقل ألأكاديمي، بل ساهمت في خلق فرز لم يكن المعهد يتوقع حصوله ولا يتمناه، مما دفعه في خطوة لاحقة إلى ترك هذا المشروع، أو على ترك الأبعاد السلبية التي حملها اصطلاح أسلمة المعرفة، دون أن يدلي بأي شيء يفيد مراجعته أو تخليه عن هذا الجواب.
وثمة تفسير آخر يدفع به في هذا الاتجاه، يرتبط بتقييم المعهد العالمي للفكر الإسلامي لمساره واستشرافه لمآله، إذ اتجه من سنوات خلت إلى مراجعة أطروحته الفكرية، لجهة دمج مدخلين اثنين لعلاج أزمة الأمة، إصلاح الفكر الإسلامي والتربية، فقد كان الاعتقاد السابق للمعهد أن إصلاح التصورات سيؤول آليا إلى إعادة تشكيل الشخصية الإسلامية بمنطلقاتها الفكرية الأصلية وقيمها التربوية التزكوية، لكن مسار التجربة اثبت أن إصلاح الفكر ومناهجه واسلمة العلوم الاجتماعية لا يمكن لوحده أن يضطلع بوظيفة إخراج الشخصية المسلمة، بل لا بد من الانعطاف للتربية وصياغة الوجدان بتواز مع صياغة وتشكيل العقل المسلم.
الإسلاميون والتعاطي مع العلوم الاجتماعية.. ومدخل تكامل المعرفة
جاء هذا الجواب الثالث، نتيجة للمآزق التي انتهت إليها الأجوبة السابقة، وبخاصة مأزق التسمية في اسلمة المعرفة، ومآزق محدودية مخرجاتها وـاثيرها في المجتمع الأكاديمي، فاتجه هذا الجواب رأسا إلى التأصيل لفكرة التقارب والتداخل والتكامل بين العلوم، مع الحاجة إلى نقد أطرها النظرية والمنهجية، وتطويرها عبر الاستفادة من التراكم المعرفي الذي حققته. وقد حمل المعهد العالمي للفكر الإسلامي على عاتقه بناء مفردات هذا المشروع من خلال التأصيل له من داخل التراث الإسلامي (نشر المعهد كتابا مهما في هذا الباب للدكتور ابراهيم عقيلي هو: "تكامل المنهج المعرفي عند شيخ الإسلام ابن تيمية") أو من خلال محاولة صياغة المفهوم وبسط أبعاده المنهجية، (نذكر في هذا السياق كتاب الدكتور فتحي ملكاوي " منهجية التكامل المعرفي").
ومع كل هذا الجهد الذي بذل في محاولة تلمس الطريق للتعامل مع العلوم الاجتماعية، ومع وفرة التأصيل لحاجة الأمة لهذه العلوم، بل حاجة الفقيه إليها لتحصين عملية تحقيق المناط من المزالق والأخطاء، إلا أن حصيلة المخرجات في هذا الاتجاه عرفت أوجها في المشاريع النقدية، وانطبعت في أبعادها الـتأصيلية بالانغماس في العموميات، وصارت فكرة الإفادة المنهجية من هذه العلوم تضعف بالقياس إلى الجيل الأول (جيل التأسيس إسماعيل الفاروقي ومن معه)، حتى انتهى الأمر إلى انسحاب كامل من مساحات اشتغال العلوم الاجتماعية، وفقر فظيع في المواكبة، هذا فضلا عن العجز عن ممارسة فعل النقد على أطرها النظرية والمنهجية.