هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قد يبدو الحديث عن العالم "ما بعد كورونا" مبتذلا، لكثرة الخائضين فيه؛ في الاتجاهين بين من يُبشّر به، وبين من يزجرهم عن ذلك التبشير ويسخر من توقّعاتهم، وهذه الحمّى سوف تزداد بالتأكيد بعد الانهيار المثير في أسعار النفط، ولا سيما الخام الأمريكي، وما يمكن أن يلقيه ذلك من تداعيات على الاقتصاد العالمي، بما في ذلك منطقتنا العربيّة، ومن ثم ما يلي ذلك من تبعات سياسيّة.
لا يعني ذلك إلا أن الناس تنتظر التحوّل في مسار هذا العالم، وأنّها نبذت زمام أمرها بعدما سُكِّرت أبواب التاريخ أمامها بالرغم من التضحيات الهائلة التي صُبّت في المسارات التي أريد للتاريخ أن ينصرف إليها، ثمّ، ومع هذا الاستحكام والانغلاق، يتجلّى اليأس أملا. فالرغبة العارمة في تحويل مجرى التاريخ، ما تزال أملا محتملا في ضمائر الناس، الآخذة في التعلّق بالأحداث القدرية، والانعطافات المفاجئة.
لكن من قال إنّ تلك التضحيات لا تحفر في وجه التاريخ، ولا تعيد رسم ملامحه بالتدريج؟ إرادات البشر المناوئة للذين تسيّدوا بجبروتهم صفحة التاريخ الراهنة.. تفعل فيه أكثر من الجوائح المفاجئة، والانكشافات المخزية، والتداعيات الاقتصادية الرهيبة، ولكنّ إزاحة المتسيّدين لا تكون بالضربة القاضية. وبعض ضربات المقاومين لاستكبار العالم قد ترتدّ عليهم مُخفية آثارها على هؤلاء المتسيّدين. والحاصل أنّ العالم داخل في طور التغير من سنوات، ويتّسم بالغموض وانعدام اليقين طوال المرحلة الماضية الأخيرة، وما يمكن قوله إنّ هناك تحولا بطيئا في المراكز وموازين القوى، دون أن يعني هذا، أنّه سيصبّ في صالحنا، لأنّنا بالنظرة لموقعنا من العالم، لا يوجد فينا من هو مؤهّل لاحتلال مراكز متقدّمة في الصراع على صدارة العالم، أو بين قواه المتنافرة.
تدخل اليوم على خطّ التحوّلات؛ جائحة كورونا، ثمّ الانهيار الاقتصادي الذي قيل في شأنه إنه سيكون أعمق من الكساد العظيم الذي حصل في العام 1929. فبسبب هذه الجائحة التي حاصرت العالم وقلّصت من نشاطه الاقتصادي.. تراجع الطلب على النفط، وفي لحظة حرجة كهذه قرّر وليّ العهد السعودي إغراق السوق بالنفط في حرب مع موسكو على الحصص السوقية، ممّا أوجد وفرة في الإنتاج، وأزمة في التخزين أفضت إلى هذا الانهيار في أسعار النفط، الأمر الذي قد يفضي إلى تداعيات اقتصاديّة أكبر وبالضرورة سياسية في هذه الحال. ولأنّ مراكز القوى تعاني الخلخلة والتنافر، فإن احتمالات نشوب حرب واردة الآن، لا سيما إن استمرّت تداعيات الأزمة بما يُهدّد الهيمنة الأمريكية على العالم.
هل هذا مُحتّم؟ لا. فليست الغاية توقّع ما بعد كورونا، وإنّما الاستفادة من أهمّ ما تدلّ عليه، هي وتداعياتها الاقتصاديّة على الكيفيات التي يُقرأ بها مسار التاريخ شديد التعقيد والغموض للكثرة التي لا تُحصى من العوامل المؤثّرة فيه، كما هو شأن الاجتماع الإنساني. فهذه الجائحة، سواء انتقلت من الحيوان إلى الإنسان، أم تسرّبت من مختبر صيني في ووهان، أم كانت حقيقتها غير ذلك، عامل جديد لم يكن يتوقّعه أحد، ثمّ أخذت تفعل فعلها؛ و"عظماء العالم" يبدون أمامها صغارا حائرين. ثمّ وحتى منتصف شباط/ فبراير الماضي والمؤسسات الاقتصادية الدوليّة وفي أسوأ توقعاتها كانت متفائلة بالنسبة للمنحنى الذي أخذ يهبط إليه الاقتصاد العالمي من بعد النصف الثاني من الشهر المذكور، وصولاً إلى هذا الانهيار السريع في أسعار الخام الأمريكي!
ثمّة مفاجآت تدخل على الخطّ إذن، تفيد بإمكانية حصول دفعات مفاجئة للتحوّل الجاري في التاريخ، أو خلق منعطفات حادّة لم تكن مرئيّة من قبل، وهكذا دائمًا هو جَمَل التاريخ، يبدو قادرا على تجاوز الصحاري بأحماله الثقيلة ثم تقصم ظهره قشّة مفاجئة لا تدري من أين حملها الهواء. وإذا كنّا لا نقول إن ما يجري هو تلك القشّة، فإنّنا فقط نتعلم منه التواضع، فالعوامل غير المنظورة كثيرة، والمفاجآت بتنا نرصدها واحدة خلف أخرى، والغيب دائما ما يخفي بغتته، ويدّخر سخريته من كِبْر البشر.