هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من المؤكد أن جائحة كورونا ستغير وجه التاريخ كما فعلت الحروب العالمية، ليس لأنها تسبب خسائر فادحة في الأرواح في زمن قياسي (في حرب فيتنام ما بين عامي 1954 و1975 خسرت الولايات المتحدة 57939 قتيلا، بينما راح أكثر من 58500 أمريكي ضحية الكورونا خلال ثلاثة أشهر)، ولكن لأنها استنزفت خزائن معظم البلاد وعطلت الإنتاج، وتسببت في فقدان الملايين لسبل كسب العيش، وستنجم عن كل ذلك ضوائق اقتصادية يفاقمها انعدام الغذاء في كوكب تعرضت فيه التربة للإنهاك، وشحت فيه المياه الصالحة للشرب والزراعة.
ولا شك في أن الكورونا تقوم سلفا بتشكيل العلاقات الاجتماعية والإنسانية، فمن ناحية انكفأ الناس على ذواتهم، وصارت العائلة الصغيرة عالما مغلقا شبه مستقل عن العائلات الأخرى، بما في ذلك العائلة الممتدة التي تنتمي إليها تلك الصغيرة، ومن ناحية أخرى ـ ونتيجة لذلك الانكفاء ـ تعززت العلاقات داخل كل أسرة في مواجهة العدو المشترك، ويؤكد باحثون اجتماعيون أجروا دراسات ومسوحات في عدد من البلدان، أن حوادث العنف المنزلي في ظل انحباس الناس في بيوتهم اتقاءً للكورونا شهدت انحسارا ملحوظا خلال الشهور الثلاثة الماضية.
استضاف الكاتب المغربي الساخر الساحر الحسين قيسامي مؤخرا في صفحته في فيسبوك عددا من الكتاب ورسامي الكاريكاتير العرب ليرووا تجاربهم مع لزوم البيوت خوف التهلكة، ووطَّأ قيسامي لذلك بالتذكير بأن الوضع خطير، ولا منقذ للناس من شرور الفيروس سوى التخندق في البيوت، لأنه ليس من بارقة أمل في الحصول على ترياق مضاد للكورونا في القريب العاجل، خاصة وقد "تبدد الأمل الذي كانت تعقده البشرية على المنقذ الرجل الوطواط (باتمان)، ذلك البطل الخارق الذي كان يحارب الجريمة والظلم، ولكن سقط القناع عن وجهه، وارتدته البشر بمسمى كمامات في انتظار سوبرمان".
ومن يقرأ مداخلات ضيوف قيسامي، يدرك أنهم جميعا معتادون على العيش في ظروف القسر والقمع والحد من الحريات، وبالتالي يرون في العيش تحت طائلة "المدام" ما يجعلهم يرددون "حنانيك بعض الشر أهون من بعض".
رسام الكاريكاتير العراقي خضر الحميري، خضع لقرار مجلس قيادة عمليات العائلة بأن يكون هو بوصفه أكبر أفراد العائلة عمرا من يقوم بواجبات التسوق، "على أن يؤدي كافة فروض التعقيم وغسل اليدين وخلع الخفين فور دخوله البيت عائدا من السوق". باعتبار أنه مؤهل لذلك لكونه عاش "متنعما" بالحروب والحصار والأزمات، ويقول إن من تمكَّن من تجاوز كل تلك المهالك يسهل عليه التعامل مع فايروس مجهري.
لا شك في أن الكورونا تقوم سلفا بتشكيل العلاقات الاجتماعية والإنسانية، فمن ناحية انكفأ الناس على ذواتهم، وصارت العائلة الصغيرة عالما مغلقا شبه مستقل عن العائلات الأخرى، بما في ذلك العائلة الممتدة التي تنتمي إليها تلك الصغيرة، ومن ناحية أخرى ـ ونتيجة لذلك الانكفاء ـ تعززت العلاقات داخل كل أسرة في مواجهة العدو المشترك،
أما الكاتب المغربي الساخر فريد كومار فإن تجربة الحجر المنزلي توقظ في نفسه مخاوف ظلت تلازمه لسنوات: "أقضي أيامي وحيدا معزولا؛ كأنني في زنزانة.. لا ينقصني سوى سماع صلصلة المفاتيح واشية بقدوم السجان وقت توزيع حصص الأكل. أول شيء أقوم به في الصباح هو إلقاء التحية على نفسي في المرآة... ويأتيني صوت الأصفاد، وفجأة أنتبه إلى أنه صياح ديك: كوكورونا".
الكاتب التونسي الطيب الجوادي حاول التمرد على فرمانات الحكومة العامة والحكومة العائلية الخاصة بالالتزام بحظر التجوال، وخرج ذات يوم إلى المقهى، حيث تناول ما أراد في ركن مخفي منه عن العسس، ولما عاد إلى البيت "طلبوا منّي الوقوف بدون حراك أمام الباب ريثما يتمّ تعقيم حذائي، ومدّوني بالجل المطهر، ثم جاءتني المدام بثياب جديدة في كيس وطلبت مني أن أدخل الحمام على الفور من أجل دشّ ساخن. وطلبوا منّي أن أضع ثيابي التي أرتديها في الماء المغلي" ويعلن أنه تاب بعدها توبة نصوحا من التمرد.
ويقول رسام الكاريكاتير الجزائري الطاهر جحيش إنه استغل وقت الفراغ العريض في رسم كل ما يفضح "سياسة العصابة، والخادش لحيائها على صفحتي في الفايسبوك"، وبما أنه متمرد على العصابة، فإنه بداهة متمرد على ما يسميه بروتكولات الكورونا ولا يلتزم منها سوى ما يتعلق بتعقيم اليد بعد كل جولة خارج البيت.
رسام الكاريكاتير المغربي امبارك بوعلي هو أكثر من استكتبهم قيسامي انضباطا في العصر الكوروناوي، فقد تقسم أفراد عائلته إلى ثلاث قبائل: واحدة في الصالون تتابع الأرقام والإحصائيات الدولية عبر التلفزيون، وثانية تورطت داخل المطبخ الذي دخلوه نحافا ثم صاروا عاجزين عن الخروج منه بسبب كثرة التذوق وظهور هضاب لحمية على جغرافية أفرادها. "أما القبيلة الثالثة فهي أنا، فقد تحولت إلى دركي يحمل بين يديه قناني التعقيم، ولا أدع شبرا من البيت إلا ووصله نصيبه منها، وحتى الملابس لم تعد بألوانها".
وبالنسبة للكاتب الجزائري الساخر السعيد بوطاجين فـ "كله محصل بعضه" لأنه يعيش الحجر المنزلي منذ عقود بحكم أنه يعيش "في الوطن العربي الضيق"، وهو بالتالي "محجور بالوراثة".
وما لفت انتباه الكاتبة والرسامة السورية لبنى ياسين في ظل الظروف الراهنة ورصدها للأرقام والحقائق المتعلقة بتفشي الكورونا، هو البروز المشرف لبعض المخترعين العرب .. "فمن كل دولة خرج علينا من وجد اللقاح دون غيره، ولأنه نابغة عصره فقد وجده خلال أيام، ودون حاجة إلى مختبرات، أو تجارب، وتعقيبا على ذلك تقول: يا عمي حتى اللي بيغني عندو تجربة أداء، فما بالك بالدواء؟".
يقول الكاتب الأردني الساخر يوسف غيشان إنه ينتظر انحسار جائحة الكورونا حتى يعيش حالة العزلة التي اعتاد عليها بوصفه كائنا بيتوتيا، وهو بهذا يقول لنا إن إيقاع حياته لم يضطرب بسبب الحجر المنزلي وإن لم يعتد بعد على بقاء زوجته وبنته في البيت معه ليل نهار.
أسوأ سيناريو للأحداث في الدول العربية بعد أن تصبح الكورونا في ذمة التاريخ ولو إلى حين، هو أن الحريات فيها ستنكمش، بعد أن تجد الحكومات في الظروف "الضاغطة" ما يبرر لها فرض مزيد من القيود على الحريات العامة، والتي هي أصلا بالقطّارة على ذمة إفادات الكتاب والرسامين العرب أعلاه.