أخبار ثقافية

إرنديرا بين الورق والشاشة (2): الفِلم وسيناريو ماركيز

فيلم Erendira
فيلم Erendira

ظهر فِلم Erendira من إخراج البرتغالي البرازيلي (هُوي جِهّا Ruy Guerra) وإنتاج مشترَك بين فرنسا والمكسيك وألمانيا الغربية عام 1983.

 

كتب السيناريو ماركيز بنفسِه، وصُوِّر الفِلم بالكامل في المكسيك، واختير ممثِّلاً للسينما المكسيكية في مسابقة أفضل فِلم بلغة أجنبية في مهرجان جوائز أوسكار السادس والخمسين عام 1984، لكنّه رُفِض، كما أنه شارك في مهرجان (كان) عام إنتاجه. 

 

والمُخرج (جِهّا) يُعَدّ من المنتمين إلى تيار السينما الجديدة cinema novo في البرازيل، وهو تيار برز في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي متأثرًا بسينما الواقعية الجديدة في إيطاليا وسينما الموجة الجديدة في فرنسا، واهتمَّ أساسًا بمشكلات الصراع الطبقي والعِرقي في البرازيل. 


* عن مرئيات الفِلم:

 

يقع بصرُنا أول شيءٍ على قبرَي أماديس الأب والابن ف الصحراء المتاخمة لقصر الجَدَّة، قبل أن نشهد الصبية إرنديرا تحمِّم جدَّتها ونرى الوشم الكبير على ظهر الجَدَّة، ذلك الذي يقول عنه ماركيز في القصّة إنه يُزري بأوشام البحّارة في حجمِه. إضاءة المشاهد الافتتاحية الخافتة وطبيعة الديكور تقرّبان الفِلم من الفلم نوار Film Noir وهو تيار السينما الذي صعد في الأربعينيات والخمسينيات متأثرًا بالسينماتوغرافيا التعبيرية الألمانية، واحتشد بالجريمة وإظهار الدوافع الجنسية.   


بشكل شخصي كنت أتصور الجدَّةَ أثناء القراءة امرأةً طاعنةً في السِّنِّ بادية التجاعيد رغم تكرار الإشارة إلى أنها ربما كانت أجمل امرأةٍ في العالَم في شبابِها، وربّما ما رسم هذه الصورة في مخيلتي حرص ماركيز على بيان دناءتها البالغة التي تجعلُها أقرب إلى نمط الساحرات الشرّيرات. لكن توقُّعي خابَ بالطبع أمام وجه الفنانة اليونانية (إيرين باباس Irene Papas)، وإن كان وجه البرازيلية (كلاوديا أوهانا Claudia Ohana) صادقَ على توقُّعي بشأن إرنديرا نفسِها! 

 

بينما تعزف الجدّة نرى إرنديرا تقوم بأعباء القيام على القصر، وصياح النعامة يختلط بدقّات البيانو. وفي المشهد التالي لإخلاد الجدّة ثم الحفيدة للنوم واحتراق السِّتار حين تدفعه الريح للمس الشمعدان، يتحول القصر إلى أطلال. ونفتقد ذلك الديكور الباذخ الذي ميَّزَ مشاهد القصر، وإن كانت تعود قُرب النهاية حين تنتعش تجارةُ جسد إرنديرا وتؤثث الجدَّةُ خيمةً باذخةً أخرى. 

 

في المشهد الذي تنامُ فيه (إرنديرا) في فِراشِها بينما يدخل إليها يوليسس للمرّة الثانية (01:04:23)، أجدُ نفسي أتذكّر على الفور لوحتَي (يهوديت) للفنان النمساوي جوستاف كلِمت Gustav Klimt، لاسيّما اللوحة الأولى (يهوديت ورأس أليفانا Judith with the Head of Holofernes) التي تصوّر المشهد التوراتيَّ من سِفر يهوديت، حين أغرَت (أليفانا) قائد جيش نبوخذ نصّر ثم ذبحَته. لكن خلفية المشهد ملاءةٌ بيضاء على الفِراش، بعكس الزخارف البيزنطية الساحرة في لوحة (كْلِمت) رائد ما يسمى بالفنّ الجديد Art Noveau، كما خلا المشهد من ذلك الجّذَل الذي تواجهنا به ابتسامة يهوديت في اللوحة! فهل هذا مقصودٌ أو هل خطر لوهلةٍ للمخرج؟! ربما. لو صدق هذا لكان في المشهد إحالةٌ إلى ما تمثّلُه إرنديرا من بطولةٍ مقلوبةٍ مسجونةٍ في البِغاء، ولأصبح يوليسس رمزًا لمُعتَدٍ أوربيٍّ كما قُلنا في المقال الأول، ننتظر أن تنتقم منه إرنديرا رغم ما يُكِنُّه لها من حُبّ.

 

اختار (جِهّا) أن يستبقي المشاهد السحرية من القصة، وجاء هذا في إطار أمانة نقلِه المتناهية للسّرد الأصلي، فهناك تغيُّر لون الماء حين يلمس يوليسس الكأس في مشهد لقائه بأمِّه، وهو ما تؤوَّله الأم باعتباره علامة على الحُبّ (01:00:16). كما نرى البرتقال المسحور والفتي يفتحه ليُشهِد إرنديرا الألماسة المدفونة بداخل الثمرة. وهكذا حافظَ على روح الواقعية السحرية المميزة لماركيز.

 

في مشهد إرنديرا بجوار جثة الجدة (01:41:29)، تنظر إرنديرا إلى باطن كفّها التي تكتسب خطوطًا أعمق لحظيًّا قبل أن تأخذ صدار الذهب وتهرب. ويبدو لي أنّ هذا الحَلّ قد وصل إليه ماركيز مع (جِهّا) باعتباره معادلاً للنضج أكثر قابليةً للتحقيق سينمائيًّا من تغيرات الوجه التي أشار إليها ماركيز في القصة الأصلية، وربما كان ماركيز قد نسي ما كتبَه في النسخة الأصلية، إذ مِن المتداوَل أنه كتب سيناريو الفِلم من الذاكرة بينما مخطوط القصة ضائع! وعلى أية حال، في كُلٍّ من القصة والفِلم يُحيلُنا المشهد إلى التيمة الأبرز في (صورة دوريان غرِاي) لأوسكار وايلد، أعني حَملَ الجسد لآثار الإثم بما يعنيه من نضج، وإن كانت خطوط اليد في تقديري تضيف معنىً آخر محتمَلاً هو وصول إرنديرا أخيرًا إلى مرحلةٍ تستطيع فيها أن تُدير حياتَها أو أن تقبض على صدار الذهب، أثمن مقتنيات الجدَّة لتبدأ عالَمًا جديدًا تتجاوز فيه ما فات.  

 

أما ما يتلو ذلك المشهد من انفتاح الأفق وإرنديرا تعدو بمحاذاة الشاطئ فلعله يذكّرنا بمشاهد ختامية مماثلة في أفلام يصل فيها التوتر إلى ذروته قرب النهاية ليَنحَلّ فجأة بجوار البحر، كما يحدث في الحياة اللذيذة La dolce vita لفِلِّيني (1960)، و(تُرى ماذا حدث للطفلة چِان Whatever happened to baby Jane) لروبرت ألدرِتش (1962) وحتى في (أحلام هند وكاميليا) لمحمد خان (1988). فيها جميعًا تبدو النهاية مفتوحةً، فالمُشاهد يتخلص من التوتر في تطهُّر ناقص، حيث يبدو أقصى ما يمكن أن يطمح إليه أن يعرف أنّ الحياة ربما تأخذ منحىً أفضل مع أبطال الفِلم فيما بعد، وهو عمومًا عنصُرٌ ثوريٌّ بالنسبة للمتعارَف عليه مِن أنّ الفِلم بصفته بِنيةً سرديةً يجب أن ينتهي نهايةً واضحةً مُرضِيَةً، لا كالحياة التي لا تنتهي وإن ماتَ أبطالُها!


* موسيقى الفِلم:

 

تبدهنا موسيقى تتر البداية المتراوحة بين المونوفونية والهارمونية البسيطة المعتمِدة على آلتَي أكورديون فقط، منخرطتين في حوارٍ بينهما في سُلّم صغير، وهو لحن يتكرر في معظم النصف الأول من الفِلم.

 

أما الأغاني التي أدَّتها (باباس) بالفرنسية على الپيانو فلا ندري إن كان اختيارها لماركيز أو (جِهّا)، وإن كان من المعروف عن الأخير أنه قضى شطرًا كبيرًا من حياته في فرنسا ونهَل من ثقافتها، فهو الأقرب في تصوري لاختيار هذه الأغاني. 

 

هناك أوّلاً (أغنية مارجاريت La chanson de Margaret)، تبدأ في عزفها وغنائها في الثانية (04:13). هذه الأغنية التي كتبَها پيير دومارشيه (1882- 1970) ولحّنها (مارسو فرشُويرِن V. Marceau (1902-1990) وغنّتها أصلاً چيرمان مونتيرو Germaine Montero (1909- 2000) تنضح بهذا الحنين الذي يسكنُ الجدَّةَ إلى ماضيها، كما تنطق في تعالُقاتها الثقافية بخبايا الفِلم. فأوّلاً لدينا كاتبُها (دومارشيه) نفسُه، وهو الروائي والشاعر الفرنسي (پيير ماك أورلان Pierre Mac Orlan) الذي كتب باسمِه المستعار (دومارشيه) رواياتِه الإباحيّة كشكلٍ من أشكال الانتقام من عمّه (دومارشيه) الذي كان سببًا في بعض المصاعب التي واجهها في حياتِه! كما أنّ روايات دومارشيه نفسَها مليئةٌ بالممارسات السادية والمازوخية التي تتجاوب وما تمارسه الجدّة على إرنديرا من استغلالٍ أثيمٍ لجسدِها.

 

أما الأغنية فهي مونولوج بلسان امرأة تتذكّر ماضيَها وانزلاقَها إلى ممارسة البِغاء ثم زواجَها من بحّار يغير مصيرَها. هي أغنية تجسّد ذلك الخطّ الواهن في قصة ماركيز، حيث تتذكر الجَدّة احترافَها البِغاءَ في شبابِها قبل أن تقابل أماديس الكبير. تبدأ الأغنية بمفتتح قصير في السلم الكبير ثم يبدأ الغناء في سلم صغير متأمّل وتنتقل إلى سلّم كبير فرِح حين تنفتح طاقة الذكريات.

 

تدور أحداث الأغنية بين (الهافر) في فرنسا و(تامپيكو) مدينة البترول والعِمارة الباذخة قرب الساحل الشرقي للمكسيك، فهي توطّن قصة إرنديرا الكولومبيّة في المكسيك بدرجةٍ ما. والمهم أن من اختار هذه الأغنية بكل تعالُقاتِها لهذا المشهد قد أحسن صُنعًا على أصعِدةٍ كثيرة.  

 

 

 

ثم تكمل الجدة ذكرياتها مع الاستماع إلى الأغنية Tortuga وهي أيضًا لپيير دومارشيه من لحن جورج فان پاري George Van Parys (1902-1971) وأداء چيرمان مونتيرو، وهي تبكي وتضع همَّها في الأكل (07:55)!

 

 

 

في النصف الثاني من الفلم يسيطر الجيتار على الموسيقى مع خلفية من الأكورديون ومداخلات من الكمنجات، وهو ما يكسر حالة الكآبة المسيطرة على النصف الأول من الفلم، لاسيما مع مطاردات الشرطة والجدة والمزارع الهولندي للعاشقَين. 

 

وهناك خيطٌ لطيفٌ في القصة يتّصِل بموسيقى الفِلم، حيث يذكر ماركيز أنه عرف الحفيدة والجدة في الوقت الذي انتعشت فه بضاعتهما بعد عودة الحفيدة من مغامرتها الأولى مع يوليسس، لكنه لم يَنكَبَّ على كتابة التفاصيل إلا بعد أن عرف نهاية الحكاية من صديقه رافايل إسكالونا Rafael Escalona. والمهم أن هذا الأخير كان صديقًا حقيقيًا مقرَّبًا لماركيز، من أهم موسيقيي البايِّناتو Vallenato وهو نمط موسيقيٌّ مميِّز للوادي المنبسِط في شمال كولومبيا، ومن هنا جاء اسمُه الذي يعني (المولود في الوادي).

 

ويقال إن ماركيز قال ذات مرة لصديقه إن روايته الأشهر (مائة عام من العزلة) ما هي إلا بايِّناتو طويل. ولعلّ الأكورديون المسيطر على أجواء النصف الأول من الفلم يشير بشكلٍ ما إلى البايِّناتو حيث إنه الآلة النغمية الأساسية فيه، وإن كانت في ذلك النصف غير مصاحَبَةٍ بآلتَي الإيقاع (الكاخو والجواتشاراكا) ومائلة إلى السلم الصغير في حزن متأمل.


* السيناريو والقصة - بين الأمانة والتصرُّف: 


رغم مجيء الفِلم إجمالاً ترجمةً سينمائيةً أمينةً للقصة، إلا أنّه يبدو أن ماركيز لم يجد مناصًا من بعض التصرف. فهو مثَلاً وَضَعَ جملة "لم يكن المبشرون يكافحون الشيطان فقط وإنما كانوا يكافحون الصحراء كذلك" -التي يقولُها الراوي العليم في القصة الأصلية- على لسان إحدى الراهبات (37:00).

 

وفي تقديري أنّ مثل هذه التصرفات الحِوارية تقصّر المسافة التي ينبغي على الكاتب أن يقطعها ليَنقُلَ بلُغة السينما ما نثره في قصّته في سطرٍ أو اثنين، فالأمثل سينمائيًّا أن تنقُل الصورةُ إلينا هذه المعلومة، وإن كان هذا يتطلّب بذل مجهودٍ أكبر من قِبَل كاتب السيناريو والمُخرج. ألهذا أحجم (نجيب محفوظ) عن تحويل رواياته إلى سناريوهات وهو كاتب السيناريو المتمرّس؟! 

 

كذلك مع ظهور السناتور (أونيسيمو سانشيز) استعار ماركيز له جزءًا من قصة أخرى يأخذ فيها دور البطولة، هي (الموت ثابتٌ وراء الحُبّ)، فظهرَ (سانشيز) يتناول أقراص العلاج ويستروح بالمروحة القديمة من الحَرّ اللزج المميز للبقعة الصحراوية التي يدور فيها معظم أحداث الفِلم، مرورًا بخُطبته في الحملة الانتخابية التي ألقاها دون حماس، واللقطة السحرية التي يتحول فيها الورق المكوَّم إلى طيور تحلّق في فضاء المخيَّم الانتخابي حين يرفعها أتباع سانشيز، ثم قصاصة الورق التي تتحول حين يُطَيِّرُها بنفسه إلى فَراشةٍ لتَخرُجَ إلى حيث تنتظر (إرنديرا) ثم تظل تخايِلٌها إلى أن تلتصق بالحائط، وحينئذٍ يستيقظ الحارس النائم ليُخبر (إرنديرا) بأنَّ الفَراشة التي تداعبها لن تنفصل عن الحائط لأنها ببساطةٍ مرسومةٌ عليه! ثم اكتشاف (سانشيز) أنّ (إرنديرا) ترتدي حزام العِفّة وعليه أن يرسلَ أحدَهم إلى الجَدَّة بخطاب التزكية المنتَظَر لترسل إليه بمفتاح الحزام.  هذا التتابع من المشاهد مُستعارٌ بالكامل من القِصّة المُشار إليها.

 

هذا، في حين أنّ السيناريو قلّصَ ظُهورَ العُمدة في المَشهد الذي تزورُه فه الجَدَّة عند الدقيقة (38:00) وحذف التفاصيل العبثيّة الرائع في القصة، حيث تقول القصة الأصلية إنه كان يصوب بندقيتَه نحو السحاب لحظة زيارة الجدّة له، لاستنزال المطر، وحين يُعرب لها عن عجزه إزاء مسألة استرجاع إرنديرا من الإرسالية تسأله فيمَ إذَن اختاروه عمدةً لهذه البلدة، فيقول لاستنزال المطر. لقد كان مشهدًا محمّلاً بطاقةٍ كوميديّةٍ لا تخلو من رمزٍ إلى عبث السلطة وخوائها، ولا أدري لِمَ حذفَه ماركيز من السيناريو.  

 

ولعلَّ أمانة الفِلم للقصة تتأكد أخيرًا رغم هذه التصرُّفات حين نستمع في مشهد لقاء يوليسس بأمه إلى لغة (جواخيرو) بالفعل، ما يؤكد ما قلناه عن ذلك الحرص الأنثروبولوجي لدى ماركيز، وقد انتقل هنا إلى المُخرج (هوي جِهّا)، ثم نستمع إلى جملة بالهولندية تعبر عن سؤال الأب لابنه عمّا يتحدث هو ووالدته بشأنه. لقد كان الفِلم أمينًا تمامًا في نقل حالة البوتقة الأمريكية اللاتينية التي انصهرَت فيها الأعراق والأجناس.

 

كذلك يذكر ماركيز في القصّة صديقَه الروائي الكولومبي (ألفارو سِپِدا ساموديو Alvaro Cepeda Samudio) وكيف أركبه معه شاحنتَه وعبرا بها الصحراء كلها في ذلك الوقت، ليدهشَه مرأى طابورِ الرجال الواقفين ببابِ خيمة إرنديرا، وهو طابورٌ متموِّجٌ طويلٌ كثعبانٍ ضخمٍ فِقراتُه مِن الآدميين. وهنا يذكر الفلم متابعًا القصة بلاكامان الطيِّب وهو يدعو الناس لمشاهدة ترياقه الشافي من السُّمّ، والمرأة التي تحولت إلى عنكبوت لأنها لم تُطِع والدَيها، وهما شخصيتان من قصتين أُخرَيين لماركيز، إلا أننا لا نحتاج لمعرفة ذلك ليوفِّرا لنا متعةً إضافيةً إلى متعة البازار الغرائبيِّ الذي تحتلُّ إرنديرا مركزَه بصفتها البَغِيَّ التي سرقَت الرجالَ من كُلِّ مَن عداها مِن البغايا! 


* العاشِقان وهذيان الجدَّة:

 

لا نكاد ننتبه إلى تجاوب هذيان الجدّة مع الحديث الدائر بين يوليسس وإرنديرا إلا في الفِلم، فهما يتحدثان عن بشرة يوليسس الذهبية ورائحته الزَّهرية، والجَدّة تتذكر يوم ميلاد إرنديرا وفرَح أماديس الأصغر (ابنها ووالد إرنديرا) حتى إنه أمر بعشرين عربةً تفرش الأرض أزهارًا حتى تحول الأفق إلى اللون الذهبي!

 

كما نكتشف جانبًا آخر من التوازي بين الهذيان الحلُمي الصاخب للجدة وموقفِ يوليسس، فهي تحكي عن ليلة صاخبة كانت تغني فيها مع البَحّارة، ثم قابلَت رجلاً أطول وأقوى منهم جميعًا وأشدَّ رجولةً من أماديس (زوجها فيما بعد)، وكيف غازلها ذلك الرجُل وقال إنها أجمل نساء الأرض وأكثرهن جاذبيةً ومهابةً في الوقت ذاتِه. وهي تقول إن هذا الرجل وصل كما وصل (جواتارال) إلى جويانا، وهي قصة غزوٍ هولندي للعالم الجديد، ربما تتكرر في يوليسس صاحب الاسم البطولي ذي الأصول الهولندية من ناحية أبيه، لكن يوليسس فتى ضئيل ضعيف، وهو ما يفاقم سخرية موقفِه. 

 

هذا التوازي يزرع في المتلقِّين الشّكّ في أصالة ما يشهدُه من أحداثٍ تدورُ حول إرنديرا، فما يحدثُ الآنَ يبدو تكرارًا لما حدثَ للجَدَّة قديمًا بشكلٍ ما أو بآخَر، ولا جديد تحت الشمس، كما أنه يصرفُنا عن شيطنة الجَدَّة ويرسُم جوانب إنسانيةً منها تجعلنا نكاد نتعاطفُ معها رغم دناءتها! 

 

وهو توازٍ يقومُ بدورٍ أخيرٍ بالغ الأهمية يتجاوبُ وما أسلفنا قولَه في المقال الأول عن احتشاد القصة بالرموز، فالجدّةُ بصِفَتها السلَف الأوربيّ القديم لإرنديرا في حالة هذيانٍ تسرِدُ وقائعَ تشبه ما يجري أمام أعيُنِنا، كأنّ مستقبلَ إرنديرا (بصِفَتها رمزًا لشعوب أمريكا اللاتينية) مرسومٌ سلَفًا ولا مناصَ مِن تكرار أخطاءِ الأسلاف الأوربيين ومصائرِهم.


* صيحةُ البومة:

 

قرب الختام تعزف الجَدَّة نفس أغنية المفتتح لكن دون غناء، بينما يقلد يوليسس صيحة البومة – التي اتفقَ عليها مع إرنديرا- بعد أن ربط البيانو إلى الخارج في الديناميت لينفجر في وجه الجَدَّة وتلحقَ به إرنديرا. وبعد قتل الجدّة تهرب إرنديرا مرتديةً البَياض الذي تظهر به في الأفيش الرسمي للفِلم.

 

وإذا كان لصيحة البومة ارتباط في أساطير العالم بالموت والخراب، فالارتباط أوثَق بالفعل وأكثر تجذرًا لدى شعوب أمريكا اللاتينية، ولاسيما في المكسيك حيث مازال المثل يقول: "إذا صاحت البومة مات الهنديُّ Cuando el tecolote canta, el indio muere"، مُشيرًا إلى ارتباط مِكتلانتِكُتلي  Mictlantecuhtli بالبُوم، وهو إله الموتى عند شعب الأزتك، كما أنّ نص (بوبول فوه Popol Vuh) المقدس عند شعب المايا يَدعُو البوم رسل (شيبالبا Xibalba) أي عالَم الموتى.

 

وهكذا تصبح هذه الصيحة نذيرًا بانهيار عالَم الجَدَّةِ بما فيه من هذيانٍ وذكرياتٍ، ربما لينهض على أطلاله عالَم إرنديرا جديدًا تمامًا، وربما لتتكرر الأخطاء ويتكرر المصير!


* عن الممثِّلِين:

 

كانت (كلاوديا أوهانا) في العشرين من عمرها وقت تصوير الفِلم، وكانت زوجةً للمخرج (جِهّا) وقتذاك، وكان عليها أن تمثل دور فتاةٍ ناحلةٍ في الرابعة عشرة تتعرّض لهذا الاستغلال الجسدي الآثِم، وهي مثال واضح للاختيار المبني على النمط الجسديِّ للممثل. 

 

(أوليفر ويهي Oliver Wehe) الألمانيّ الذي جسّد شخصية (يوليسس) كان في السادسة عشرة وقت تصوير الفِلم، ومن المثير للتأمل أنه فِلمُه الوحيد تقريبًا، حيث تحوّل بعد ذلك إلى رقص الباليه وهجر السينما تماما.

 

أمّا (إيريني باباس) فكانت تجسيدًا حيًّا للقسوة التي لا تَريم عن عرشِها، فهي تتحكّم في جسد الحفيدة بشكلٍ شيطاني ولا تكاد تلتفت لما تعانيه الأخيرة من آلامٍ جرّاء ممارسة البِغاء التي تستمرّ في كل مكانٍ ما استمرّ المال يَصِلُ إلى يد الجَدَّة. وفضلاً عن ذلك هناك مقدرتها الاستثنائية على الأداء الصوتي، كأن لها أكثرَ من خامة صوت، فهناك خامةٌ تظهر أثناء الصياح في الجنود المحتشدِين لمواقعة الحفيدة، وأخرى أثناء الحديث الهذيانيِّ في نومِها، وفي هذا الأخيرِ نرى قدراتها التمثيلية الاستثنائية التي جعلَت لحظات الهذيان مشاهد جديرةً بالخلود في ذاكرة السينما العالمية.

التعليقات (1)
بين الشاشة و الواقع
الأحد، 03-05-2020 10:48 م
السينما الأمريكاني 50 سنة مفهمين العالم كله أنهم جاهزين لأي غزو للكرة الأرضية من الفضاء أو المحيط أو تحت الأرض . حتى الفيروس البطل كان بيعرف يجيب الفاكسين و أنهم هيحموا العالم كله و لكن في وقت الجد تبخر كل شيء زيهم زي أي دولة في العالم خسارة تذاكرة السينما اللي راحت على الأرض . نعلم جيداً أنه في هوليود دائماً الإنسان الأبيض و غالباً الأمريكي من ينقذ البشرية بمعنى الذي يصدق هذا فيجب عليه أن يخجل من نفسه و يعيد النظر في ذكائه .