هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
هل قاربت الأزمة السورية على الانتهاء أو دخلت مرحلتها الأخيرة؟ سؤال يطرحه كثير من السوريين مع اشتداد الهجوم على الأسد في وسائل الإعلام الروسية المقربة من الكرملين ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية على النظام التي كان من ثمارها مؤخرا انفكاك العلاقة العضوية بين الأسد ورامي مخلوف.
وربما يذهب البعض في قرب انتهاء الأزمة السورية إلى التجارب التاريخية العديدة خلال المئة عام المنصرمة، حيث لم تتجاوز الحروب الأهلية في العالم أكثر من عشرة أعوام، باستثناء حالة أو حالتين، وهذا هو الذي دفع الصحافي الأمريكي ماكس فيشر عام 2013 للقول إن الحرب الأهلية في سوريا ستنتهي بين عامي 2018 ـ 2023 دون أن يوضح طبيعة وشكل هذه النهاية.
لم يبن فيشر تقديره آنذاك على معطيات الواقع السوري، لأنه في تلك المرحلة كان من المستحيل وضع تواريخ تقريبية لنهاية الأزمة، حيث كان الصراع في بداية عنفوانه المسلح، والأغلب أنه اعتمد على التجارب التاريخية.
فعلا، أثبت الواقع التاريخي أن الحروب الأهلية، سواء التي أعقبت ثورات سياسية ـ اجتماعية أو تلك الناجمة عن احتقان طائفي أو قومي، لم تتجاوز هذه المدد التاريخية.
استمرت الحرب الأهلية في الكونغو منذ عام 1996 وحتى عام 2003، فيما استمرت الحرب الأهلية في نيجيريا ثلاث سنوات بين عامي 1967 ـ 1970، وكذلك الحرب الأهلية في راوندا (التوتسي، الهوتو) حيث استمرت بين عامي 1990 ـ 1993، أما في دارفور، فقد امتدت الحرب الأهلية إلى سبع سنوات بين عامي 2003 ـ 2010، حين وقعت الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة اتفاقا لوقف إطلاق النار برعاية قطرية.
وتعتبر الحرب الأهلية في الجزائر (العشرية السوداء) أطول الحروب الأهلية المنتهية في القارة الإفريقية خلال العهد الحديث، حيث استمرت من عام 1992 إلى عام 2002، وحدثت على خلفية إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 1991 والتي حققت فيها "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" فوزا مؤكدا مما حدا بالجيش إلى التدخل لإلغاء الانتخابات البرلمانية.
الاستثناء الإفريقي كان في الصومال، حيث ما تزال الحرب الأهلية مستمرة بشكل أو بآخر منذ اندلاعها عام 1991، والسبب في ذلك هو غياب الاهتمام الدولي فيها.
في أفغانستان استمرت الحرب الأهلية تسعة أعوام على مرحلتين، كانت الأولى بين عامي 1992 ـ 1996 حين بدأت بهجوم عسكري شنه قلب الدين حكمتيار على القوى الموقعة على اتفاقية بيشاور للسلام، في حين استمرت المرحلة الثانية من الحرب الأهلية بين عامي 1996 ـ 2001 أثناء حكم طالبان.
الحرب الأهلية السريلانكية تعتبر من الحروب الأهلية الطويلة في العالم، حيث استمرت من عام 1983 إلى عام 2009، عندما نجح الجيش في القضاء على نمور التاميل.
وفي أمريكا اللاتينية دامت الحرب الأهلية السلفادورية قرابة 13 عاما، من عام 1979 وحتى عام 1992، بين الحكومة العسكرية وجبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني (FMLN)، وهي ائتلاف من خمس جماعات حرب عصابات يسارية.
أما الحرب الأهلية في غواتيمالا، فقد حققت أطول مدة، إذ استمرت لنحو 36 سنة، بين عامي 1960 ـ 1996.
ولما كان من الصعب في الأمد المنظور تغيير خريطة النفوذ العسكري الإقليمية ـ الدولية في سوريا، ومن الصعب أيضا إنهاء العقوبات السياسية ـ الاقتصادية المفروضة على النظام وحلفائه، سيكون من مصلحة روسيا والولايات المتحدة كل لأسبابه إطالة الوضع القائم على أمل حصول متغيرات مفاجئة.
هل تندرج الحرب الأهلية في سوريا ضمن هذه التجارب التاريخية، أم تشكل استثناء كما هو الحال في سريلانكا وغواتميالا؟
من الصعوبة تصنيف التجربة السورية ضمن تجربتي سريلانكا وغواتيمالا، ففي سريلانكا لم يكن ثمة اهتمام دولي بهذه الجزيرة النائية، فضلا عن أن الجغرافيا الطبيعية لها حمت نمور التاميل لسنوات طويلة، في حين أن الثورة اليسارية الفاشلة التي قام بها ضباط عسكريون بقيادة الجنرال يديغوراس فوينتس في غواتميالا، ظلت تلقى دعما من كوبا، وهو ما جعلها تستمر طويلا، فضلا عن موقعها الجغرافي غير المهم من الناحية الاستراتيجية.
كذلك، لا يمكن وضع التجربة السورية ضمن الحالات التاريخية القصيرة الأخرى، لأن معطيات الواقع السوري تختلف كثيرا عن هذه الحالات.
تتميز الحالة السورية بوجود توازن دقيق في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية: على الصعيد المحلي ثمة قوتان بارزتان (النظام، قسد)، وعلى الصعيد الإقليمي (تركيا، إيران) وعلى الصعيد الدولي (الولايات المتحدة، روسيا).
هذا التوازن الدقيق بين القوى، هو خاصية سورية، لم تعرفه التجارب التاريخية الأخرى، وإذا ما أضفنا إلى ذلك، الموقع الجغرافي الاستثنائي أيضا لسوريا، لجهة وقوعها في قلب المشرق العربي من جهة ومحاذاتها لإسرائيل من جهة ثانية، فإن مصير هذه التجربة سيكون لها خصوصيتها.
أيضا، هناك مسألة في غاية الأهمية، وهي ما المقصود بانتهاء الحرب الأهلية في سوريا؟ هل المقصود انتهاء الأعمال العسكرية فقط، أم المقصود به انتهاء الأزمة برمتها مع إسقاط النظام، أو على الأقل إجباره على تقديم تنازلات سياسية تسمح للمعارضة بولوج السلطة، وهي عملية قد تتطلب سنوات كثيرة؟
على مدار الأعوام القليلة الماضية، قامت المقاربة الروسية على إضعاف فصائل المعارضة مع تحصيل أكبر قدر ممكن من الأراضي لصالح النظام، في حين قامت المقاربة الأمريكية على أن هذه الأراضي المستعادة لا تعتبر أراضيَ مفيدة للنظام وروسيا، وبالتالي لا تمنحهما أفضلية استراتيجية.
وقد بدأ الكرملين منذ العام الماضي يعي هذه المسألة، فهذه الأراضي المستعادة شكلت عبئا اقتصاديا على النظام وعبئا سياسيا على روسيا، لأن النظام وجد نفسه منتصرا عسكريا وليس في وارد تقديم تنازلات سياسية، الأمر الذي يضع موسكو في عنق الزجاجة على المستوى الاستراتيجي.
ولما كان من الصعب في الأمد المنظور تغيير خريطة النفوذ العسكري الإقليمية ـ الدولية في سوريا، ومن الصعب أيضا إنهاء العقوبات السياسية ـ الاقتصادية المفروضة على النظام وحلفائه، سيكون من مصلحة روسيا والولايات المتحدة كل لأسبابه إطالة الوضع القائم على أمل حصول متغيرات مفاجئة.
لكن، هذه الرؤية بدأت تنقلب على روسيا التي تجد نفسها بحاجة إلى تحريك المياه السورية الراكدة، ولم تجد طريقة لذلك سوى ممارسة الضغوط على الأسد، أولا على الصعيد العسكري في إدلب حين أجبرته على ضبط نفسه، وثانيا على الصعيد السياسي والاقتصادي حين شنت وسائل إعلام مقربة من الكرملين هجوما على الأسد ومقربيه.
وجاء انقلاب الأسد على رامي مخلوف تتويجا للضغوط الروسية التي تعود لأشهر طويلة قبل أن تنتقل إلى وسائل الإعلام، ولذلك، فإن أهمية الخلاف بين الأسد ورامي مخلوف لا تكمن في النتائج المترتبة عليه، وإنما في أسبابه، فالنظام قادر على استبدال رامي مخلوف بعشرات غيره، وقادر على نسج تحالفات طائفية وغير طائفية، وقادر على الإتيان بمصاصي دماء كثر ممن ينهبون ويقتلون ويجدون في هذا النظام تربة خصبة لطموحاتهم.
من الواضح أن الأسد يريد إسكات الروس، أو على الأقل التخفيف من ضغوطاتهم عليه لتسديد جزء من الدين، خصوصا بعد الأزمة الاقتصادية الروسية الناجمة عن انخفاض أسعار النفط العالمية وأزمة كورونا التي شلت الاقتصاد العالمي.
لكن الأهم أن الأسد يريد إنهاء الضغوط الروسية السياسية عليه، والانقلاب على رامي مخلوف يحقق نتائج اقتصادية ونتائج سياسية، مفادها أنه ما زال قادرا على التحكم بكل الأوراق داخل البلاد، وأن صناع القرار في الكرملين لن يجدوا بديلا عنه في الحكم.
ومع ذلك، فإن ما حصل سيكون مقدمة لتطورات أخرى قد تصيب شخصيات اقتصادية وعسكرية ضمن إعادة ترتيب النظام لأوراقه الداخلية مع اشتداد الضغوط الاقتصادية والسياسية، من أجل المحافظة على الهيمنة الدكتاتورية الشاملة.
وعليه، فإن الصراع السوري ما يزال طويلا، وهو يحمل عناوين وأشكالا مختلفة: كانت البداية بثورة سلمية حقيقية ما لبثت أن تسلحت قبل أن تستحيل إلى أزمة إقليمية ودولية، ثم بدأ طور التراجع العسكري حتى وصل إلى حدوده الدنيا، لينطلق بعدها صراع سياسي ـ اقتصادي مفتوح وطويل الأمد، هو الشكل الأحدث للحرب الأهلية المستمرة.
كاتب وإعلامي سوري