هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(إلى روح محمد حسن عبد العظيم رحمه الله.. ولكل أحبابه)
دخلت عليه.. كان في خلوة.. رآني.. فسألني: من أنت؟
أجبته: شاعر.
قال: فامدحني إذن!
قلت له: ما مدحت إلا قليلا.. وما مدحت أحدا إلا وهجوته بعد أن مَرّ الزمان وانقلبت الأحوال.
قال: هل منعوك بعد عطاء؟
قلت: ما أخذت حين المدح.. كي أهجو بعد المنع.. ما مدحت إلا أبي!
قال: فيم تكتب إذن؟
قلت: كنت أتغزل.. ثم خطفني ما يخطف أصحاب الهمم.
قال: ما خطفك؟
قلت: أحوال الناس.. دموع الثكالى.. وجوع اليتامى.. وذلّ الرجال.
قال: ما تبغي إذن؟
قلت: أن أمدحك!
قال: عجبا لأمرك.. ألم تقل إنك لست من المداحين؟ وأنك ما مدحت أحدا إلا وهجوته بعد مرِّ الزمان وانقلاب الأحوال؟
سكت قليلا ثم أردف: أم تراك تريد مدحي لتهجوني بعد حين؟
قلت: صحيح أنني لم أمدح إلا قليلا.. وصحيح أنني هجوت من مدحتهم.. ولكن ذلك لا يعني أنني لا أمدح.. فأنا أمدح صفات الأحياء التي تُحَلِّقُ فوق الشخوص..
سألني: فقط؟
قلت: وأمدح الأموات.. ولكنهم يظلمون مديحي ذاك.. يسمونه رثاء!
قال: وكيف تراني؟ صفاتٍ محلقةً؟ أم ميتا جاء من عالم آخر؟
قلت: إنك ميتٌ (هكذا بالتنوين).
قال: جئت ترثيني قبل أواني؟
قلت: بل جئت أمدحك بما فيك.. فأنت ميت لا يموت..
أطرق.. ثم حدّق في فراغ الغرفة ثم قال: قل ما عندك!
قلت: لا أقول حتى نشرب القهوة.. سأعدّ لك فنجانا.. ما سكّرك؟
قال: مضبوطة قهوتي.
قلت: وبُنُّكَ متوسط التحميص.. وتفضّل البنّ المحوّج..
سألني: كيف عرفت؟
قلت: الشعراء عارفون.. أنت من المؤلفة قلوبهم في القهوة!
حضرت القهوة.. ومع الرائحة بدأ البوح..
قلت له: لا تنتظر الفرج، فالفرج لا يأتي من ينتظره، بل يهرول مع من يَجُرُّهُ جَرًّا، ولا تأمن حلفاءك، بل روضهم ترويض الكلاب، فالكلاب وفية، ولكن لا خير في كلب وفيّ غير مدرب.
قال: زدني.
قلت: لا تعتذر أبدا عن خير فعلته، ولا لظالم قصمته، ولا تتكبر عن الاعتذار عن خطأ ارتكبته، وإذا اعتذرت للإنسان فاحرص أن يكون ذلك بعد توبة للرحمن.. فلا خير في اعتذار بلا توبة.
قال: زدني.
قلت: اعشق.. ثم اعشق.. ثم اعشق..
قال: فإن لم أستطع؟
قلت: فاطلب الموت.. فلا خير في حياة يعجز فيها الإنسان عن العشق.. واعلم أن العشق باب.. فاحرص على أن لا تخلع الأيام هذا الباب لتبني جدارا.. واعلم أن هذا الجدار إذا بُنِيَ فلا بد أن تهدمه بيدَيْكَ وأن تعيده بابا كما كان..
قال: والباب؟
قلت: ما شأنه؟
قال: أفتحه؟ أم أغلقه؟
قلت: ما هذا من عمل العباد.. بل هو من عمل رب العباد.. المهم أن تترك الأمر كما خلقه الله.. بابا ربانيا.. لا جدارا من غلظة الزمان.. وفعل الإنسان.
قال: سأشغل بعض الموسيقى..
قلت: لا بأس.
انطلق المنشد يقول: "يا ليل".
فدحرج نحوي سؤالا: يا أيها الشاعر.. ما تقول في الليل؟
قلت:
اللّيلُ دُرُوبْ..
يَخْطُوها كُـلُّ حَبيبٍ للمَحْبُــوبْ..!
ويَتُوهُ بِهِ المَجْــذوبْ..
مَعْ كُلِّ مَسَاءٍ يَتْرُكُ هَـذا اللّيلُ بقَلبي قِطْعَةَ فَحْمِ!
يَزْدَادُ ظَلامي الجُوَّانِيُّ ويَكْبُرُهَمِّي..
جَبَرُوتُ اللّيلِ يُقَرِّرُ حَبْـسَ الفَـرْحِ بغَمِّـي..
أتَعَايَـشُ مَعْ إظْلامِ اللّيلِ لأنّي أُدْرِكُ أنَّ اللّيلَ نَهَارٌ مَقْلُــوبْ!
يَتَنَفَّسُ فيهِ المَغْلُـوبْ..
بدُمُوعِ الشِّعْـرِ المَعْـزُوفِ المَكْتُــوبْ..
قَدْ سَوَّى اللهُ قُلُوبَ النَّاسِ ببَعْـضِ سَوَادْ..
والقَلْبُ الأبْيَضُ دُونَ سَوَادٍ قَلْبٌ مَثْقُــوبْ..!
نظر نحوي مشدوها.. ثم استنكر قائلا: "والقَلْبُ الأبْيَضُ دُونَ سَوَادٍ قَلْبٌ مَثْقُــوبْ..؟!".
أتطلب من الناس أن يسوّدوا قلوبهم!
قلت: لا أطلب من الناس ذلك.. بل أطلب منك أنت!
نظر مذهولا.. حاول أن ينطق فلم تسعفه الكلمات..
قلت له: اعلم يا ابن الأرض الطيبة المباركة أنك لا تحب حتى تكره.. واعلم أن حبا بلا كره حب زائف.. اعلم يا ابن الأرض أن الكره حبٌّ مقلوب!
واعلم ثم اعلم أن من يكرهونك يخدرونك بحلو كلام عن الحب.. وقمة الحب أن تكرههم!
إن حُبَّ الحياة كُرْهٌ للآخرة.. وحُبُّ الآخرةِ كُرْهٌ للدنيا.. لذك تعلم أن تحب الحياة.. وأن تكرهها!
وحُبُّ الوطنِ حبٌّ لأبنائه وكُرْهٌ لأعدائه.. فتعلم أن تحب الوطن وأن تحب أبناءه.. واعلم أنك في هذه الحال لا بد تكره بعض أبنائه.. وكرهك لهم هو قمة الحب.. ولا يخدعنك عدو بحب كل شيء.. وكل أحد.. فما وضع لك أحد هذا السكر في قهوتك إلا ليداري طعم فنجانه المسموم.. وما أكثر الفناجين المسمومة في عصرنا!
يا بني.. اعلم أن الله خلقك لتوجّه حقد الجموع إلى المكان الصحيح.. وتوجه القلوب إلى من يستحق.. ولا خير في حُبٍّ في غير موضعه.. وما أسوأ الكُرْهَ إذا لم يكن من لوازم حب عظيم!
سكت المكان والزمان.. وبردت القهوة.. وسكتت الموسيقى.. ولم يبق إلا لسان الحال يشدو بصوت من بعيد.. يقول:
أنَا مَنْ يُوَجِّهُ سَيْلَ التَّفَاؤُلِ شِعْـرًا لمَجْرى العَمَــلْ..
أنَا مَنْ يُصَوِّبُ حِقْـدَ الجُمُـوعِ لتَكْسِـرَ دِرْعـا تَحَصَّـنَ مِنْ خَلْفِهَـا مَنْ قَتَــلْ..!
أنَا مَنْ يُحَرِّكُ جَيْشَ الشَّجَاعَةِ ضِدَّ جُيُـوشِ الوَجَــلْ..
أنَا مَنْ يُبَدِّلُ طَبْعَ الأُسُودِ لشَعْبي بِطَبْعِ الحَمَــلْ..
أنَا مَذهَبُ الزُّهْـدِ حيـنَ انْتِصَارِ الطَمَـعْ..
أنَا بَلْسَمُ الأرْضِ حيـنَ انْفِجَارِ الوَجَــعْ..
أنَا العَـقْـلُ إنْ مَا اقتَنَـعْ..
أنَا هَـدْأةُ الرُّوحِ عنْـدَ الفَــزَعْ..
أنَا سَكَـنُ القَلـبِ عنْـدَ الجَــزعْ..
يُسَائلُني الجَـمْعُ: "هَلْ تَسْتَطيعُ تُضَمِّـدُ هَـذا الصَّبَاحَ الذي أثْخَنَتْهُ رِمَاحُ اللّيالــي؟"..
فَقُلْتُ لَهُمْ: "أسْتَطيـعْ..!"..
لأنِّي كَرَاعٍ إذا تَاهَ.. ضَـلَّ القَطيــعْ..
أنَا مِنْجَنيقُ الحَقِيقَةِ..
يَقْصِفُ كِذْبـًا تَحَصَّنَ خَلْفَ جِـدَارٍ مَنيــعْ..
سَأدَّخِرُ الدِّفْءَ في القَلبِ حيـنَ الصَّقيـعْ..
أنَا مَنْ يُلَوِّنُ صَفْحَةَ تِلْكَ الحَيَاةِ فُصُولاً
وسَوْفَ أظَلُّ أُفَتِّـحُ وَرْدي
لأنِّي إذا مَا ذَبُلْـتُ يَمُـوتُ الرَّبيـعْ..
سَأبْقَـى على أمَلِ الشـَّمْـسِ حَيـًّا بأمْـرِ البَصِيـرِ السَّميـعْ..
لأنِّي إذا مَا يَئِسْتُ كَطَيْرٍ هَوى
فَسَيَيْـأسُ بَعْـدي الجَميــعْ..!
نظر نحوي.. متسائلا.. فأجبته: نعم.. هذا أنت.. وهذا مديحك!
ثم انصرفت.
* * *
هامش: محمد حسن عبد العظيم.. شاب مصري.. رحل عن دنيانا منذ أيام.. اعتقله نظام "سيسي" عدة مرات وهو في الثالثة عشرة من عمره.. عذبوه رغم طفولته.. ترك بلاده مضطرا قبل أن يكمل عامه السادس عشر إلى تركيا.. اضطر للسفر مرة أخرى إلى الولايات المتحدة.. اعتقل والده عدة مرات، وهو اليوم في حالة إخفاء قسري منذ عامين.. لا يعرف أحد مكانه.. لا يعرف هذا الأب (إن كان حيا) أن ابنه وحبيبه قد مات وحيدا في شقته في نيويورك بعد أن أصيب بكورونا.. بعد عدة أسابيع من إتمامه لعامه العشرين!
نسأل الله أن يتغمده برحمته.. وأن يصبر كل أحبابه.. وأن يبارك في هذا الجيل العظيم الذي سيغيّر مصر قريبا بإذن الله..
twitter.com/arahmanyusuf
موقع إلكتروني: www.arahman.net